كتب يحيى دبوق في “الأخبار”:
لم تَعُد التقديرات على حالها في ما يتّصل باحتمالات الحرب الشاملة في المنطقة. صحيح أن المشهد الميداني وإمكانية تطوّره على خلفية تموضع إسرائيل العدائي وتوثّب أعدائها للردّ على اعتداءاتها، يستبطن مؤشرات ترجّح تلك الحرب أكثر ممّا كانت واردة في الماضي، إلا أنه في سياق هذا التصعيد، وأيضاً بسببه، ثمة سباقاً فعلياً هذه المرّة بين التهدئة والتسويات، وبين الحرب الشاملة. ويَظهر أن السيناريوات المتطرّفة جداً تضغط على صانع القرار في واشنطن وفي تل أبيب، للدفع نحو تسوية كانت إسرائيل تستمهلها، علّها تتمكّن من سحب ما أمكن من مكتسبات عبر استمرار القتال، سواء ربطاً بمصالح «الدولة»، أو بالمصالح الشخصية لرأس الهرم السياسي فيها، بنيامين نتنياهو.ويُعدّ لقاء الدوحة التفاوضي، الجولة الأولى التي يتعذّر من الآن تحديد أيامها، فيما ستشهد، على الأرجح، صعوداً وهبوطاً في نسب التفاؤل والتشاؤم. ومع ذلك، فإن انتظار نتائجها لن يطول كثيراً، بالنظر إلى أن عامل الوقت يحمل حالياً مستوى عالياً من المخاطرة، قياساً بما كان عليه الحال في السابق. وبالتزامن مع استمرار المفاوضات، تسعى تل أبيب إلى بثّ أجواء تفاؤلية، جنباً إلى جنب إطلاق تهديدات متجدّدة، في ما يتساوق مع مساعٍ أميركية ومن شركاء إسرائيل في الإقليم والعالم، عنوانها: التخويف من الحرب التي يخشونها هم أيضاً، والترغيب في مسار تفاوضي يأتي في مقدّمة أهدافه وضع سقف للردود على الاعتداءات الإسرائيلية إقليميّاً، إذ لا تتسبّب في دفع إسرائيل إلى ردود عالية السقف، ثم إلى تبادل ردود من شأنه أن يتحوّل إلى نوع من الحرب الشاملة، أو على الأقل مواجهة شبه شاملة ومؤقتة، أو حرب استنزاف طويلة، وغيرها من السيناريوات التي لا تقلّ إقلاقاً للأطراف المجتمعة (وتلك الغائبة أيضاً) في الدوحة في هذه الأيام، عن الحرب الشاملة نفسها.
وحرصت إسرائيل، في الأيام الماضية، على بثّ مؤشرات توحي بأنها جادّة، هذه المرّة، إزاء العملية التفاوضية. ومن بين تلك المؤشرات التي قرئت لدى المراقبين على أنها دالة على إمكان إيجاد تسويات: إرسال بنيامين نتنياهو الوفد المفاوض كاملاً مع صلاحيات كبيرة قياساً بالماضي؛ بقاء الوفد في الدوحة لمزيد من التشاور من دون أن يبادر، كما درجت عليه العادة، للعودة إلى تل أبيب فور انتهاء جولة التفاوض الأولى؛ مواقف وتصريحات وتسريبات صدرت عن وزراء مقرّبين من نتنياهو، تفيد بأن جولة التفاوض الحالية مغايرة، وقد تفضي إلى اتفاق فعلي. إلا أن هذا المشهد يُعدّ مكرّراً، رغم أن مقدماته وأسبابه الراهنة مغايرة؛ ذلك أن تهديد الحرب الشاملة يضغط، بما لا يقاس، على طاولة القرار في إسرائيل، وأيضاً في الإقليم، وصولاً إلى الجهة التي ترعى العدوان وتسمح بالاستمرار فيه، أي الولايات المتحدة التي عليها أن تكون جزءاً لا يتجزّأ من هكذا حرب، وهو ما يضغط عليها تالياً في اتّجاه حمْل الأطراف كلّها على التوصّل إلى تسويات.
في المقابل، ثمة على طاولة القرار في تل أبيب، مَن يراهن على الضغوط التي يفرضها خطر الحرب نفسه على محور المقاومة، وربما تحمله على الحدّ من ردوده حتى لا «تضطرّ» إسرائيل إلى ردّ مقابل يقود إلى ردود منفلتة، هي ما يخشاه الكيان ويدفعه إلى العودة إلى المسار التفاوضي. لا بل إن أصحاب هذا الرأي يرون في التصعيد الإقليمي، وتحديداً في حال تعاظمه نسبياً، فرصة وإنْ مع قدْر من المخاطرة، لتحقيق تسويات في أعقاب جولات قتال عالية في كل ساحة من ساحات المواجهة، بما يؤدي إلى تحييد هذه الجبهات تباعاً، ويتيح لإسرائيل العودة إلى حربها التي لن تنقطع في قطاع غزة، ليس في اتجاه تحقيق الأهداف المعلنة لهذه الأخيرة، بل لتطبيق خطط أعلنها فاشيّو حكومة نتنياهو، ورفضتها بقية أطياف القوس السياسي الإسرائيلي، لا لأنها غير سوية، بل لأن احتمال تنفيذها غير متاح.
الأكيد، إلى الآن، أن نتيجة المفاوضات الحالية ستكون حاسمة في تحديد اتّجاه الحرب ومسارها في غزة وفي الإقليم، فيما دورها الأساسي في هذه المرحلة، كما يريدها الجانبان الأميركي والإسرائيلي، هو الحدّ من دافعية أعداء إسرائيل للردّ على اعتداءاتها. أمّا ما إن كانت هذه الجولة ستثمر وقفاً لإطلاق النار، فلا إجابات قاطعة أو حاسمة، وإنْ كان تهديد الحرب الشاملة، يبقى قائماً ويزيد، في حال الإعلان عن فشل المفاوضات.