أقرّ رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، كيريلو بودانوف، في مقابلة مع «بي بي سي»، بأن الحرب في بلاده تحوّلت إلى مأزق بالنسبة لها ولروسيا، نتيجة عدم قدرة أيّ منهما على حسمها لمصلحته. وعلى الرغم من أن غاية بودانوف من هذا الإقرار هي المطالبة بدعم عسكري غربي أكبر، إلا أنه اندرج في ما يسمّيه بعض المعلّقين «نغمة استحالة الانتصار الأوكراني»، المتصاعدة في الآونة الأخيرة في أوساط غربية. وما يجدر ذكره هو أن بودانوف من أرفع المسؤولين العسكريين الأوكرانيين، والمتَّهم الأوّل من قِبل موسكو بتدبير تفجير جسر القرم في مضيق كيرتش في تشرين الأول الماضي، والذي سبق أن توقّع في أيار 2022 أن تشهد الحرب في أوكرانيا منعطفاً خلال شهر آب، وأن تُهزم روسيا قبل نهاية العام المنصرم. ويأتي كلام بودانوف بعد مقتل عشرات الجنود الروس في قصف صاروخي أوكراني لأحد نقاط تجمّعهم في منطقة دونيتسك، لم تتضح جميع ملابساته بعد، وأيضاً بعد اعتراف مؤسِّس مجموعة «فاغنر» الروسية بمواجهة قوات موسكو لـ«صعوبات جدّية» في المعارك الجارية في شرق أوكرانيا.
لا شكّ في أن هذه الاعترافات المتبادلة، بمعزل عن الخلفيات الفعلية للذين يدلون بها، تؤكد دقة توصيف الوضع الميداني الحالي بـ«المأزق». لكن، كيف ستردّ موسكو على الضربة الأكثر إيلاماً التي تعرّضت لها قواتها، والتي تحوم شبهات عدة حول مساعدة أميركية في تنفيذها؟ المرحلة الأولى من الردّ شهدت قصفاً لكييف ومقاطعات أوكرانية أخرى بعشرات المسيّرات، وإعلاناً من قائد الطيران البعيد المدى في القوات الجوية والفضائية الروسية، الفريق سيرغي كوبيلاش، عن أن الطائرات الحاملة للصواريخ الاستراتيجية ستشارك في الحرب الدائرة. قد تتّضح في الأيام المقبلة مراحل تالية من ردّ موسكو على عملية ناجمة عن استخدام ما يسميه نيل فرغوسون، المؤرّخ البريطاني – الأميركي المحافظ، في مقال أخير بعنوان «ليس كلّ شيء هادئاً على الجبهة الشرقية» على موقع «بلومبيرغ»، نقلاً عن أليكس شارب، المدير التنفيذي لعملاق التكنولوجيا «بالانتير تكنولوجي»، «منظومات السلاح الخوارزمية المتقدّمة». ووفقاً لبالانتير، فإن القدرات التي تمنحها هذه المنظومات لِمن يمتلكها، «تُوازي حيازة أسلحة نووية تكتيكية في مقابل خصم ليست لديه سوى أسلحة تقليدية». ويلفت فرغسون إلى أن روسيا لا تمتلك المنظومات الخوارزمية الموازية للنووي التكتيكي، لكنها تمتلك الأخير، و«من المحتمل أن ينقاد بوتين إلى استخدامه».
عندما حذرت موسكو القوى الغربية من مغبّة ضخّ منظومات السلاح المتقدّمة لنظام كييف، هي كانت مدركة لِما ستحدثه هذه المنظومات من قفزة نوعية في قدرات النظام المذكور، فكيف إذا توازى هذا الأمر مع إسهام أميركي وغربي مباشر في توجيهها وإدارة المعركة بمجملها؟ يختم المؤرّخ المحافظ، والشديد العداء للروس، مقاله بالإشارة إلى أن الحربَين العالميتَين الأولى والثانية سبقتهما نزاعات محلّية كحرب البلقان في 1912 و1913، والغزو الإيطالي للحبشة في 1936، والحرب الأهلية الإسبانية (1939-1939)، والحرب الصينية – اليابانية في 1937، ليضيف أن تلك الجارية في أوكرانيا تبدو الآن لمصلحة الغرب، لكنها، قد تتّجه نحو السيناريو الأسوأ، «فتصبح قاطرة نحو نزاع أوسع». لن ترتضي روسيا الهزيمة لِما سيترتّب عليها من نتائج كارثية بالنسبة لأمنها القومي ووحدتها الترابية، ولا ريب في أن تجاوز خطوطها الحمراء سيدفعها إلى فعل الأمر عينه بالنسبة لِما يعتبره الغرب خطوطه الحمراء. بهذه الطريقة، يبدأ التدحرج نحو الهاوية. ربّما على قادة الغرب الإنصات إلى نصائح «حكيمهم»، هنري كيسنجر، الذي لم ينسَ كيف تحوّلت القارة العجوز في بدايات وأواسط القرن العشرين إلى جحيم متّقد.