رسائل اختيار السنوار: لا عودة إلى ما قبل 7 أكتوبر
كتب عبد المنعم علي عيسى في “الأخبار”:
غالباً ما تهدف الاغتيالات السياسية إلى الإطاحة بنظام قائم بغرض إحلال آخر مكانه، أو إلى الإخلال بتوازن ما داخل حزب أو حركة معينة، بحيث يُنتج الفعل، الذي يعني هنا غياب رأس الهرم، خللاً في مراكز ثقل المنظومتين العسكرية والسياسية لهذا الحزب أو الحركة بشقيهما التكتيكي والاستراتيجي على حد سواء. ولعل من المؤكد أن قرار إسرائيل القاضي باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، كان يندرج في هذه السياقات الأخيرة، فيما المأمول منه كان الدفع نحو حال من فقدان التناغم بين المنظومتين الآنفتي الذكر، بناءً على معطيات لعل أبرزها أن الظن بوجود «تمايز» بين الاثنتين، في الأهداف وسبل تحقيقها، يكاد يكون حقيقة من النوع الذي يمكن البناء عليه.وفق التقارير التي رشحت من غزة، فإن المشاورات التي أجريت لاختيار خليفة لهنية لم تستغرق سوى «وقت قصير»، ليحصل يحيى السنوار بعدها على إجماع لم يتحصّل عليه أي من أسلافه، باستثناء ذاك الذي حظي به المؤسس، الشيخ أحمد ياسين، عام 1987. ولعل الأمرين، قصر الوقت والإجماع، لهما الكثير من الدلالات التي تنضوي في مجملها تحت حقيقة صارخة تقول: إن العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر 2023 ليست واردة، وإن مجرد التفكير في ذلك هو سراب لن يقود الفاعلين إلا إلى «التيه» الذي يغوص عميقاً في ذاتهم الجمعية، وإن الخيار الآن هو لرفع مناسيب التحدي، بعد أن أثبتت التجارب خطأ «البقاء في المنتصف». ألم يفضِ الميل العربي نحو «الاعتدال»، الذي كرّسته «قمة بيروت» 2002، ثم عاد واتخذ أشكالاً متطوّرة منه في ما بعد، إلى مزيد من التطرّف الإسرائيلي الذي بلغ، نهاية عام 2022، ذروته عبر حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، فيما المخاضات التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي اليوم تقول إن هذه قد لا تكون سوى «الدرجة» الأولى على السلالم التي يسلكها هذا الأخير؟
المناخ العام داخل «حماس» يقول إن القرار الآن لمن يحمل السلاح
تشي عملية اختيار السنوار على رأس الهرم في «حماس»، بأن المناخ العام داخل هذه الأخيرة يقول إن القرار الآن هو لمن يحمل السلاح، ليس في الميدان فحسب، بل وكذلك في بناء التحالفات وإدارة كفة التفاوض والتي يجب أن تكون انعكاساً للأول. ولربما تشير أيضاً إلى توجه عام بتوثيق عرى التحالف، القائم أصلاً، ما بين الحركة ومحور المقاومة، على حساب العلاقة القائمة بينها وبين قطر وتركيا لاعتبارات فرضتها مضاعفات الأحداث التي شهدتها المنطقة منذ أكثر من عشرة أشهر. وفي عملية الاختيار تلك، يبرز الإصرار على استمرار القتال في مشهد يشبه إلى حد بعيد التفاف الفيتناميين حول هوتشي مينه الذي استطاع هزيمة ثلاثة جيوش غربية في آن واحد، وإن كانت ثمة فوارق بين التجربتين تتمثّل في تفاوت القدرات واختلاف المناخات الدولية، فضلاً عن أن الغرب الآن، بقضّه وقضيضه، شريك في الحرب التي استُخدم فيها حتى الآن ما يعادل ضعفي ما استُخدم ضد فيتنام الشمالية خلال عشرة أعوام وليس خلال عشرة أشهر.
يقول تقرير لقناة «كان» الإسرائيلية، بعيد ساعات من إعلان اختيار السنوار على رأس هرم السلطة في «حماس»، إن «اختياره يظهر أن حماس في غزة لا تزال قوية». وينقل عن مسؤولين أمنيين فضّلوا عدم ذكر أسمائهم القول إن «اغتيال هنية لن يكون أكثر من انتكاسة قصيرة المدى» ، ثم سرعان ما «ستستعيد الحركة توازنها وتظهر بقوة أكبر مما سبق» ، قبل أن يختم أحدهم بالقول إن «الدليل على ما سبق ذكره هو انتخاب يحيى السنوار الذي يقود المعركة منذ عشرة أشهر منتقلاً من خندق إلى آخر».
كان «التصميم» الذي نشأ على أساسه الكيان الإسرائيلي يقوم على زرع «نسيج متفوّق» بدرجة كبيرة على ما يحيط به من نسُج، وعلى مختلف الصعد، مع التركيز على نظرية راحت تسوّق لها وسائل إعلامه، جنباً إلى جنب نظيراتها الغربية، عبر توصيف جيشه بالذي «لا يُقهر». لكن التصميم هنا، وكذا النظرية، احتويا على نقطة ضعف قاتلة، لأن فرضية الهزيمة، حتى ولو لمرة واحدة، سوف تقود بالتأكيد نحو رسم سيناريو النهاية. ولذا فقد جاء القرار بانتخاب السنوار، مهندس الهزيمة، ليقول إن طرفاً ما سيُهزم في النهاية، وهذا الطرف هو ليس «حماس» بالتأكيد.
كان الهدف من اغتيال هنية هو الدفع بالفلسطينيين نحو حال من الانكفاء، من شأنها العودة بهم إلى مناخات «الخوف» و»الهزيمة» التي لطالما شعروا بها في أعقاب انكفاء «منظمة التحرير الفلسطينية» منذ عام 1988، ثم وصولاً إلى «عام أوسلو» وما تلاه. لكن ما حدث هو العكس. وإذا كانت الأمور غالباً ما تقاس بالنتائج التي يمكن أن تفضي إليها، فإن إسرائيل قد تكون ارتكبت خطأ بالغاً في حساباتها تلك. فالفعل زاد من تأجيج مشاعر الفلسطينيين الوطنية، وزاد أيضاً من حماستهم للحرب والتضحية. وفي مقلب آخر، كانت المساعي الإسرائيلية لتشويه صورة السنوار داخل حركته، وفي الذات الفلسطينية عموماً، باءت بفشل ذريع، الأمر الذي يثبته بيان الحركة الذي كرّس الأخير زعيماً لحركة باتت تحظى بتأييد كامل غزة و64% ممن يعيشون في أراضي الضفة الغربية.