الأخبار- ابراهيم الأمين
في أيلول 2014، استخدمت الجماعات التكفيرية في سوريا العمليات الانتحارية وسيلة أساسية لتوجيه ضربات إلى بيئة المقاومة وجمهورها رداً على الدور المركزي لحزب الله في الحرب السورية. وكانت تلك الجماعات تدور في فلك تنظيم «القاعدة»، قبل أن تأخذ مسميات مختلفة، من بينها «جبهة النصرة» التي استقطبت قيادات كثيرة في التنظيم الأم، وتنافست مع تنظيم «داعش» على آخرين.
كان عالم هذه المجموعات ضيقاً للغاية في بلادنا. وحتى المقاومة لم تكن تخصص له حيّزاً كبيراً من عملها. لكن ذلك تغيّر جذرياً بعد اندلاع الأزمة السورية وتفاقم الأوضاع في لبنان والعراق. وحتّمت شراسة المعركة على الأرض، طريقة مختلفة وأكثر سرعة في العمل. وكان الشهيد مصطفى بدر الدين يتولى المسؤولية المباشرة عن عمل هذه المجموعات. وهو، عندما تولى القيادة الميدانية في سوريا، شكّل فريق عمل ذا معرفة وخبرة بالساحتين السورية والعراقية من جهة، وعلى تواصل وتنسيق مع أجهزة وقوى معنية في البلدين، إلى جانب العلاقة العملانية مع قائد فيلق القدس الشهيد قاسم سليماني.
اختار الشهيد ذو الفقار الحاج صالح بناء على تجربة سابقة، وعلى أدوار أدّاها في مراحل مختلفة من عمل المقاومة في لبنان، وفي برامج دعمها لقوى المقاومة خارج لبنان. ساعد الحاج صالح «السيد» في أمور كثيرة، وتولّى عمليات التنسيق المنهكة، سواء داخل الجسم أو مع الأصدقاء والحلفاء. وكان صالح، المعروف بهدوئه، يشارك في النقاش وفي وضع تصورات وخطط للعمليات وكيفية توفير مستلزماتها العملانية، مع ما يعنيه ذلك من إنجاز عملية التنسيق ذات الدور المركزي، خصوصاً أن الحرب في سوريا، كما في العراق، تطلّبت وجود مقاتلين من قوى عدة، ومن جنسيات مختلفة، وكانت هناك حاجة إلى تبادل الخبرات من جهة، وإلى عمليات فرز للاستفادة إلى الحد الأقصى من الموجود، وتقليل حجم التضارب أو الخسائر.
في تلك الفترة، عمل الحاج صالح مع الشهيد ذو الفقار على تنسيق مهام والقيام بخطوات في إطار الحرب المفتوحة ضد الجماعات التكفيرية. لم تكن هذه المعركة محصورة في المواجهات العسكرية، بل تطلب الأمر قفزة نوعية في العمل الأمني، لتحقيق هدفين: الأول وقائي يستهدف خرق هذه المجموعات وتوفير مصادر بشرية من داخلها للتعرف إلى هيكلياتها وتفكيرها وآلية عملها، والثاني إحباط عملياتها لا سيما ضد المدنيين من خلال التعرف إلى طريقة التخطيط للعمليات ذات الطابع الأمني.
وقد أُتيح للحاج صالح أن يكون شريكاً وشاهداً على عمليات التخطيط. وإذا كان دوره التنسيقي أساسياً في إنجاح العمل، فإن ثقة ذو الفقار به، معطوفة على ثقة جيل من القادة العسكريين والأمنيين في المقاومة، لا سيما بعد عمله مع الشهيد عماد مغنية، سمحت له بالعمل على مشاريع كثيرة، من ضمنها متابعة الجهود الخاصة بحماية المقرات والقواعد العسكرية التي أقامتها المقاومة داخل الأراضي السورية. وهو بقي يساعد ذو الفقار حتى استشهاده، فأُسندت إليه المسؤولية المباشرة والكاملة عن عمل الوحدة 9000 المعنية بالعمل الأمني في سوريا، والمتخصصة في مكافحة الاختراقات من جهة، وفي الفصل وحماية الجسم المقاوم والمساعدة على تأهيل كوادر انضمت إلى قوات الحزب في سوريا، إضافة إلى التنسيق مع الأجهزة الأمنية والعسكرية السورية والمتابعة اللصيقة لملف التجسس الإسرائيلي الذي نشط بقوة في الساحة السورية، مستغلاً الفوضى التي تسبّبت بها الحرب، ومكملاً لما تقوم به أجهزة استخبارات العدو في لبنان وفي بلدان أخرى من بينها العراق وإيران.
في خضم هذه المواجهة، قررت المقاومة تحقيق اختراقات فنية وبشرية لجسم الجماعات التكفيرية، وتمكّنت خلال وقت قصير من الوصول إلى عناصر فاعلة، بعضها مقرر وبعضها تنفيذي في جسم هذه المجموعات. وكانت مهمة الفريق العامل تحت إشراف السيد ذو الفقار، وكان الحاج صالح واحداً منهم، تنفيذ خطة لتوفير حماية خاصة للمتعاونين مع المقاومة من الطرف الآخر، وصولاً إلى تنفيذ عمليات وهمية لإقناع قيادات الجماعات التكفيرية بمصداقية هؤلاء الأشخاص لتعزيز موقعهم داخل هذه الجماعات. وقد أتاحت هذه المهمة الوصول إلى مراكز عمل المجموعات المعنية بالتفخيخ وتجهيز الانتحاريين وتوجيه ضربات قاسية إليها، سواء عبر عمليات خاصة قامت بها مجموعات من المقاومة، أو بتوجيه ضربات بالمسيّرات عندما كانت الظروف الميدانية تعيق المواجهة المباشرة.
في أيلول 2014، انتشر عبر وسائل الإعلام اللبنانية والعربية والدولية خبر مفاده بأن سيارة يقودها انتحاري هاجمت حاجزاً عسكرياً يقيمه عناصر من حزب الله في نقطة قريبة من الحدود مع لبنان. وجرى التداول بمعلومات عن سقوط قتلى وجرحى خلال الهجوم. لكن بخلاف التفجيرات الأخرى، لم يكن بمقدور أحد الوصول إلى موقع التفجير ولا التصوير أو الاطلاع على حقيقة ما حصل تلك الليلة.
يومها، نفّذ فريق الشهيد ذو الفقار، وبينهم الحاج صالح، عملية وهمية قضت بنشر مقاتلين للحزب قبل نقطة التفجير المزعوم، وتسريب الخبر إلى وسائل إعلام في لبنان، فيما تولى أمنيون تسريب معلومات عن سقوط قتلى وجرحى، قبل أن تعلن «جبهة النصرة» تبنّيها للعملية التي استهدفت حزب الله. حصل الشخص الذي كان مكلفاً أساساً القيام بهذا العمل على تنويه من قيادة الجماعة الإرهابية، ما أتاح له مواصلة العمل والحصول على كم من المعطيات سهلت للمقاومة إعداد برنامج للمواجهة انتهى بعملية عسكرية واسعة أنهت وجود كل هذه الجماعات على الحدود مع لبنان.
كان الحاج صالح واحداً من فريق لا يزال الأحياء فيه يعملون بصمت، تماماً كالصمت الذي سكنه لسنوات كثيرة، وهو الذي لم يكن يهتم فقط بالأمن العسكري، بل حرص على منع عمليات استغلال الحرب السورية من قبل مافيا كان بينها لبنانيون حاولوا انتحال صفة القرب أو الانتماء إلى المقاومة. وفي كتابه الكثير من الحكايات التي لا نعرف متى تقرر المقاومة الحديث عن تفاصيلها…
صالح، شأنه شأن الكثيرين من المجاهدين الذين لا يتعرف الناس إليهم إلا شهداء… وله بقيته في الأرض وبين البشر، وله من يحفظ الدرس والمهمة من دون حياد!