دلالات انتقادات السلطة الفلسطينية المتكررة لطوفان الأقصى: عباس سكت دهراً ونطق كفراً
ليس من قبيل المصادفة حقاً أن السلطة الفلسطينية اختارت انتقاد حماس في منعطفات حرجة في حين كان ينبغي عليها بدلاً من ذلك تقديم الدعم لتعزيز موقف حماس التفاوضي ودفع القضية الفلسطينية إلى الأمام، حيث بات هذا الموقف يثير تساؤلات كبيرة حول دوافعها وأولوياتها. وقد تجلى هذا النمط من السلوك بشكل خاص مؤخراً إثر الاقتراح الأمريكي الأخير بشأن الهدنة والذي خضع في بعض نقاطه لشروط المقاومة الفلسطينية، وبدلا من تعزيز وحدة الصف الفلسطيني، أصدرت السلطة الفلسطينية بيانا شديد اللهجة أدانت فيه علي خامنئي بسبب تصريحاته بشأن أهمية طوفان الأقصى للمنطقة. والحقيقة هي أن انتقادها اتجه نحو عملية طوفان الأقصى بالذات وحاولت التشكيك في أهميتها ووطنيتها. في البدء علينا أن نُذكر بأنه إذا ما أرد عباس فهم موقعه في القضية الفلسطينية وبين صفوف الشعب الفلسطيني عليه أن يراجع الإحصائيات والأرقام التي لا تكذب والتي تقول أن حجم التأييد الشعبي الفلسطيني لحماس تضاعف ثلاث مرّات عما كان عليه قبل الحرب وأن ما يقرب من 70% من الفلسطينيين طالبوا بحل السلطة الفلسطينية، كما رأى 90% من الفلسطينيين أن الرئيس عباس يجب أن يستقيل (بحسب المركز الفلسطيني للبحوث السياسية).
شدد بيان السلطة الفلسطينية على أن “الشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى حروب لا تخدم تطلعاته إلى الحرية والاستقلال، وأن هذا الشعب هو من يدفع ثمن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة”. ويبدو أن هذا الخطاب يحاول تقويض موقف حماس في وقت حيث كان من الممكن أن تؤدي الوحدة الفلسطينية إلى تعزيز الموقف الفلسطيني على الساحة العالمية خصوصاً بعد الانتصارات التي حققتها المقاومة سواء على الأرض في غزة أو على المستوى السياسي والدبلوماسي الذي دفع لانتصار ساحق لفلسطين في أروقة الأمم المتحدة حيث صوتت 143 دولة على حق فلسطين في تشكيل دولة مستقلة.
وفي هذا المنعطف الحرج، يبدو أن تحركات السلطة الفلسطينية محسوبة بهدف إضعاف موقف حماس التفاوضي، وهو النمط الذي لوحظ في مناسبات متعددة. منها التنسيق مع الإسرائيليين منذ بداية الحرب لاقتحام الضفة الغربية واعتقال الشباب الفلسطينيين المؤيدين لأهل غزة.
كما أن إحجام السلطة الفلسطينية عن دعم المظاهرات الحاشدة في الضفة الغربية التي خرجت تضامناً مع غزة يثير مخاوف جدية. حيث تعد المظاهرات أداة قوية للتعبير عن المعارضة الجماعية ويمكن أن تؤثر بشكل كبير على الرأي العام الدولي. ومن خلال قمع السلطة الفلسطينية لهذه المظاهرات، لم تؤدي السلطة إلى إضعاف روح المقاومة فحسب، بل حاولت إضعاف الموقف الفلسطيني العام ضد العدوان الإسرائيلي. وكان هذا القمع واضحا بشكل صارخ عندما استخدمت قوات الأمن التابعة للسلطة الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين، وهي خطوة تتماشى مع المصالح الإسرائيلية وليس مصالح الشعب الفلسطيني.
وكانت الإجراءات التي اتخذتها السلطة الفلسطينية في أعقاب طوفان الأقصى كاشفة بشكل خاص. حيث سقط أكثر من 400 شهيد في الضفة الغربية ضحية للعدوان الإسرائيلي، لكن السلطة الفلسطينية ظلت صامتة بشكل واضح. ويُفسر هذا الصمت على أنه تأييد ضمني للجرائم الإسرائيلية في الضفة الغربية، مما يزيد من عزلة السلطة الفلسطينية عن الشعب الفلسطيني وحركات المقاومة. إن رفض حتى تقديم الدعم اللفظي لحركات المقاومة يسلط الضوء على الانفصال العميق بين قيادة السلطة الفلسطينية وتطلعات الشعب الفلسطيني.
علاوة على ذلك، كان قرار تعيين رئيس وزراء جديد من دون استشارة فصائل المقاومة بمثابة فرصة ضائعة لتشكيل جبهة فلسطينية موحدة. ففي أوقات الأزمات، الوحدة أمر بالغ الأهمية. وكان من الممكن أن تشكل حكومة ائتلافية تضم فصائل المقاومة إلى جانب السلطة جبهة هائلة ضد إسرائيل أمام المجتمع الدولي، وتثبت أن الفلسطينيين متحدون في نضالهم من أجل الاستقلال. وبدلاً من ذلك، اختارت السلطة الفلسطينية مساراً مثيراً للانقسام، ويقوض الوحدة المحتملة.
إن حضور الرئيس محمود عباس المنتدى الاقتصادي العالمي في الرياض، حيث أدلى بتصريحات أكد فيها حق إسرائيل في الأمن الكامل والتأكيد على أن أمن إسرائيل هو من تعهدات السلطة، زاد من نفور الفلسطينيين والمدافعين عن فلسطين له. هذه التصريحات خيانة، خاصة في وقت كانت فيه الوحدة والتضامن الفلسطيني أحد أهم أدوات الضغط الدبلوماسي الفلسطيني. ويبدو بأنه إذا كان الحفاظ على أمن إسرائيل هو أولوية السلطة الفلسطينية، فإن الدفاع عن الأرض والشعب الفلسطيني هو واجب المقاومة، وهو الواجب الذي التزمت به بثبات إلى يومنا هذا.
وحده النضال المسلح لحركات المقاومة الفلسطينية نجح في إعادة القضية الفلسطينية إلى الصدارة الدولية، وحشد الدعم العالمي لفلسطين والقضية الفلسطينية. وقد دفع نضالها العديد من الدول إلى الاعتراف رسميًا بالدولة الفلسطينية المستقلة والتأكيد على حقها في الاستقلال وعاصمتها القدس الشرقية.
وفي ظل هذه الظروف، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل يحق لكيان وُجد ليضطلع بمهمة التنسيق الأمني مع إسرائيل، ويسمح ويُسّهل اعتقال الشباب في الضفة الغربية والقدس، ويفشل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية، وينسق حتى الضروريات الأساسية مع إسرائيل ولا يمتلك المسوغ الأخلاقي ولا التأييد الشعبي، هل يحق لهذا الكيان حقاً انتقاد جهود حركات المقاومة وطوفان الأقصى؟
من جهة أخرى، يبدو بأنّ هناك حقيقة جديدة تطفو على السطح مؤخراً، وهي نجاح إسرائيل باقناع السلطة الفلسطينية بضرورة انتقاد دعم إيران لحركات المقاومة الفلسطينية وعليه فقد تحصل على امتيازات جديدة من إسرائيل، وهذا هو الخيار الذي سلكته السلطة في بيانها الأخير.
ومع ذلك، فمن المسلم به على نطاق واسع أن إيران دعمت الشعب الفلسطيني باستمرار، خاصة خلال أوقاته الأكثر صعوبة. وكان هذا الدعم واضحا في مختلف المجالات، بما في ذلك الجهود الدبلوماسية والمساعدة العسكرية. وخلافاً للجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى التي استخدمت القضية الفلسطينية كورقة مساومة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، فإن الدعم الإيراني متجذّر في التزام إنساني وأخلاقي وديني عميق. وهذا التفاني الثابت لا تحركه منافع سياسية أو مادية عابرة، بل إيمان راسخ بالعدالة والتضامن. وهذا ما يؤكده موقفها الثابت من القضية الفلسطينية الذي لم يتغير مستويات دعمه عبر تغير الحكومات في إيران. إن الملف الوحيد الذي لم يتغير على مدار حوالي 45 عاماً من عمر الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو ملف دعم فلسطين باعتباره الملف الذي يوجه السياسية الخارجية لإيران. حتى الملف النووي الإيراني (وهو ملف أمن قومي واستراتيجي لإيران) حصل فيه تغيرات جذرية من التفاوض وتوقيع الاتفاق النووي إلى الاتجاه نحو تخصيب أعلى في البرنامج النووي ولكن الملف الفلسطيني لم يطرأ عليه أي تغير سلبي في جميع الحكومات الأصولية والإصلاحية والمعتدلة بل زاد الدعم بشكل مضطرد وثابت.
على مدى العقود الأربعة الماضية، تحملت إيران تكاليف مادية وسياسية كبيرة للحفاظ على دعمها الثابت لفلسطين. وقد ظل هذا الالتزام قويا على الرغم من تكثيف الضغوط الجيوسياسية والعقوبات الاقتصادية التي تعرضت لها بسبب دعمها لحركات المقاومة الفلسطينية.
لقد أثبت التاريخ السياسي على مدى العقود الثلاثة الماضية أن الاعتماد على التسوية والتفاوض لحل القضية الفلسطينية هو في أحسن الأحوال سراب. وقد خدمت هذه الأساليب في المقام الأول مصالح المحتلين، حيث عززت وجودهم في الأراضي المحتلة بدلاً من تعزيز حقوق الشعب الفلسطيني وتطلعاته. إن التوسع المستمر في المستوطنات في الضفة الغربية وتضاؤل احتمالات قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة يوضح بشكل صارخ هذا الواقع القاسي.
وفي ظل فشل الجهود الدبلوماسية، اختار الشعب الفلسطيني، بما هو معروف عنه ويتميز به من صمود وشجاعة، طريق المقاومة. ولم يتم اتخاذ هذا الاختيار باستخفاف، بل إنه يعكس قرارا واعيا واستراتيجيا ردا على تعنت وعدوانية قوات الاحتلال. إن التحولات التاريخية، مثل انسحاب المحتلين من غزة في العام 2005 ومن جنوب لبنان في العام 2000، تشهد على فعالية هذه المقاومة وضرورتها. وفي الآونة الأخيرة، تؤكد الخسائر الكبيرة التي مني بها المحتل في غزةعلى قوة وتصميم المقاومة الفلسطينية.
وحتى الآن، وبعد ثمانية أشهر من العدوان الوحشي من قبل النظام الصهيوني ضد غزة، فإن الصمود والبطولة التي أظهرها الشعب وفصائل المقاومة في غزة والضفة الغربية لم تتزعزع. وعلى الرغم من الخسائر المادية الفادحة والدمار الواسع النطاق، أثبتت المقاومة مرة أخرى دورها الحاسم في الحفاظ على القضية الفلسطينية. وهي تقف كحصن ضد الاحتلال، وتؤكد من جديد باستمرار التزامها بتحرير الشعب الفلسطيني وكرامته.
وفي الختام، يبدو أن تحركات السلطة الفلسطينية ومحاولاتها لإرضاء إسرائيل تأتي بنتائج عكسية على القضية الفلسطينية. وبدلاً من دعم حركات المقاومة وتعزيز الوحدة، كثيراً ما أدت قرارات السلطة الفلسطينية إلى تقويض هذه الجهود. وقد تمكنت حركات المقاومة، رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها، من وضع القضية الفلسطينية في مقدمة الخطاب الدولي، وحظيت بدعم واعتراف واسع النطاق. ومع استمرار النضال الفلسطيني، من الأهمية بمكان أن تعمل جميع الفصائل معًا، وتشكل جبهة موحدة لتحقيق هدفها المشترك المتمثل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة واحدة واستعادة الأراضي المحتلة.
د. محمد علي صنوبري
مدير ورئيس تحرير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية