رفعت إبراهيم البدوي
بعد ساعات من انتخابه لولاية رئاسية ثالثة، تلقى الرئيس الصيني شي جين بينغ هدية ثمينة وغير مسبوقة، تمثلت بالإعلان عن تحول جيوسياسي كبير في منطقة الشرق الأوسط، وذلك بعد نجاح الصين برعاية إبرام اتفاق عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران.
وفي تقرير نشرته «نيويورك تايمز»، خصص للحديث عن إنجاز الصين، وصف عودة العلاقات الإيرانية السعودية بـ«القنبلة»، وأفردت الصحيفة المقربة من دوائر القرار الأميركي، مساحة لبحث تداعياته المحتملة على المصالح الأميركية، ليخلص التقرير بنتيجة مؤكدة مفادها، أن ما حدث في بكين يعتبر ضربة كبيرة ومضاعفة للمصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم.
يضيف تقرير «نيويورك تايمز»، أنّ اتفاق إيران والسعودية على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، سيؤدي حتماً إلى إعادة تشكيل لسياسات الشرق الأوسط التي كانت حصراً تتبع أميركا، وأن التوقيع على الاتفاق برعاية الصين يمثّل تحدياً جيوسياسياً للولايات المتحدة وانتصاراً للصين، التي توسطت في المحادثات بين الخصمين التاريخيين.
مما لا شك فيه أن ما حصل في بكين، شكل خرقاً كبيراً لدائرة النفوذ الأميركي، وأن هذا الاختراق من شأنه الإطاحة بالوكالة الحصرية الأميركية وبالخطط الإسرائيلية الهادفة إلى تطويق إيران، فاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين القوتين الإقليميتين الأبرز إيران والسعودية، شكل ضربة قوية لسياسات أميركا في المنطقة وربما في العالم.
الاتفاق يفترض أن يرخي بظلاله الإيجابية على دول المنطقة، ولا سيما اليمن والعراق ولبنان وسورية، والتي عرفت بمناطق نزاع سياسي وعسكري مباشر أو بالوساطة بين إيران والسعودية، ولا غلو بالقول إن اتفاق الصين بين السعودية وإيران سيؤدي إلى ذوبان أسباب الحروب المبتدعة أميركياً والمتنقلة بين دول المنطقة، كما أن الاتفاق سيسهم في كسر نفوذ واحتكار أميركا فنون الإدارة والتلاعب بملف العلاقات بين دول الشرق الأوسط، وحتماً سيغير من الستاتيكو الأميركي الذي كان سائداً منذ عقود طويلة.
جولات من المحادثات بين الطرفين جرى الحديث عنها في العراق وسلطنة عمان، أسهمت في تذليل العقبات ومهّدت الطريق أمام الصين لإعلان نجاح مبادرتها، لكن السؤال لماذا الإعلان عن الاتفاق من الصين وليس من سلطنة عمان أو العراق؟
تعتبر الصين الضامن الوحيد لهذا الاتفاق، ما يكسبه الجدية والتزام الأطراف بتنفيذ بنوده كاملة، فالصين عضو دائم في مجلس الأمن وله حق النقض الفيتو، وهي الشريك التجاري الأول لدول الخليج العربي، كما أن الصين سبق لها أن عقدت اتفاقاً اقتصادياً مع إيران بلغت قيمته 400 مليار دولار، وأيضاً هناك تبادل تجاري سنوي بين السعودية والصين تبلغ قيمته 88 مليار دولار، أما بالنسبة للنفط فالصين تستورد مليوناً وسبعمئة برميل من السعودية، مقابل مليون ومئتي برميل نفط من إيران، وهذه عوامل رئيسية جعلت الصين قادرة على تقديم الضمانة، فالصين لا تستثمر في منطقة مضطربة، ويهمها إرساء الأمن في منطقة الخليج، أولاً لضمان مصالحها الإستراتيجية، وثانياً للدخول إلى المنطقة من باب الدبلوماسية الناعمة والفاعلة.
خمسة أيام في بكين كانت كافية لإحداث فالق جيوسياسي وأمني وحتى اقتصادي إستراتيجي في المنطقة، علماً أن هذا الفالق من شأنه إعادة تركيب صورة المنطقة على أسس تختلف عن تلك التي وضعتها أميركا، الأمر الذي أربك واشنطن التي لم يكن بوسعها سوى الترحيب بالاتفاق، مدعية في الوقت عينه أنها كانت على علم مسبق بحدوث الفالق، لكن تعليقات خبراء الإستراتيجيا الأميركية تفيد بأن ادعاء أميركا جاء للتخفيف من النكسة المفاجئة التي أصيبت بها الإدارة الأميركية، فلو كانت واشنطن على علم مسبق، لكانت أبلغت حليفتها إسرائيل، التي أصيبت بدورها بالهلع والجنون، فإسرائيل عملت على مدار اليوم والساعة وتجهد بكل الوسائل المتاحة لتخريب وتعطيل أي تقارب عربي عربي أو عربي إيراني أو سعودي إيراني.
مما لا ريب فيه بأن طي صفحة العداء بين السعودية وإيران، وفتح آفاق الحوار بين الجانبين، سيسهم في خفض منسوب التصعيد في ساحات المواجهة بينهما، وإذا لم يكن متاحاً التوصل إلى حلول دائمة، فعلى الأقل إيجاد مساحة لتنظيم الخلافات وعدم تفاقمها، وخصوصاً أن الاتفاق الأخير تضمن الالتزام باتفاق 2001، القاضي بوجوب التنسيق والتعاون الأمني بين السعودية وإيران.
المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي، أعلن أن اتفاق بكين شكل صعقة كهربائية أصابت جسد الدبلوماسية الأميركية، وشكل لكمة قوية بوجه النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وأن أكثر ما يُقلق الولايات المتحدة من اتفاق عودة العلاقات بين إيران والسعودية، هو مصير اتفاقات أبراهام وتأثير ذلك على مسار التطبيع بين العرب وإسرائيل.
جنون إسرائيل بدا واضحاً بعد أن شبهت الاتفاق بين السعودية وإيران بالنكسة الإستراتيجية والخطيرة على مستقبل إسرائيل، فرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت، ألقى باللوم على سياسة رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو بشأن الاتفاق السعودي الإيراني، وقال إنّ تجديد العلاقات بين السعودية وإيران، هو انتصار سياسي لإيران، وفشل مدوٍّ لحكومة نتنياهو، وهذا يعتبر تطوراً خطيراً يهدد أمن ومستقبل إسرائيل.
يائير لبيد، شريك بينيت في رئاسة الحكومة السابقة قال: إنّ الاتفاق هو فشل كامل وخطير بالنسبة إلى السياسة الخارجية للحكومة الإسرائيلية، وهذا انهيار لجدار الدفاع الإقليمي الذي سعينا إلى بنائه ضد إيران من خلال تطبيع العلاقات مع العرب.
حضور مستشار الأمن الوطني في المملكة العربية السعودية مساعد العبيان، مع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران الأدميرال علي شمخاني، دليل على أن الحيز الأمني بكل جوانبه وتفاصيله كان له الأولوية في الاتفاق، كخطوة لا بد منها تسبق لقاء وزراء خارجية البلدين، لإتمام دبلوماسية إعادة فتح السفارات وتبادل السفراء.
إن السعودية أعلنت عن إغلاق باب التطبيع مع إسرائيل قبل حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة، ومنعت وفداً إسرائيلياً من الحصول على تأشيرات دخول إلى المملكة لحضور مؤتمر أممي في العاصمة السعودية الرياض، الأمر الذي يشي بحدوث تبدل جدي في سياسة المملكة الخارجية وفي مقاربتها لملفات المنطقة ولا سيما الحقوق الفلسطينية.
خمسة أيام في بكين كانت كفيلة بكسر معادلة الأحادية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، في خطوة أقل ما يقال فيها إنها العتبة التي تنبئ بخلط الأوراق والتحالفات على الصعيدين الإقليمي والدولي، على أساس نظام عالمي جديد متعدد لا احتكار ولا أحادية فيه.
أمام نجاح الصين في كسر طوق منطقة النفوذ الأميركي، ومشهد تقبل التعازي في إسرائيل، يبرز السؤال عن احتمال لجوء أميركا وإسرائيل لافتعال عملية تخريب في المنطقة للرد على الصفعة الصينية.