كتب جوني منير في “الجمهورية”:
الإنتخابات الفرنسية التي أثارت اهتمام العواصم العالمية وحملت في مطاويها مفاجآت صادمة وأخرى مضادة تمّت قراءتها من زوايا عدة، لكن الزاوية الأهم هي تلك التي استدعت انتباه عواصم غربية عدة وفي طليعتها واشنطن، والتي تقول انّ باريس «نجت» من فخ السقوط في المدار الروسي.
فمع صعود بريق اليمين المتطرف في كثير من البلدان الأوروبية وفي طليعتها فرنسا، بسبب موجات المهاجرين غير الشرعيين وعجز الحكومات الأوروبية عن وقفها أو الحد منها، شكّل الخطاب الساخط لليمين المتطرف عامل جذب للشعوب الأوروبية. ولكن وعلى رغم من فشل حزب مارين لوبن في تحقيق النتائج البرلمانية المرجوّة خصوصا في الجولة الثانية، إلا أنه لا بد من التوقف طويلاً أمام إحرازه الكتلة الناخبة الأكبر والتي تقارب الـ11 مليون فرنسي.
ولكن السبب الذي استدعى هذا «الإستنفار» الغربي لا يتعلق فقط بجرعة الدعم التي قد تطاوِل الشارع الأميركي لمصلحة دونالد ترامب. ثمّة ما هو أبعد من ذلك ويتعلق بفتح أبواب أوروبا الغربية أمام التمدد الروسي، أو هذا على الأقل ما يعتقده عدد من الزعماء الغربيين.
ذلك أن المشروع السياسي الذي يحمله اليمين الفرنسي المتطرف لحظَ مسألتين أساسيتين: الأولى تتعلق بمعارضة مشروع الإتحاد الأوروبي، والثانية تتعلق بوقف أبواب الدعم للحرب الأوكرانية، وهو ما سيفتح الباب لاحقاً على موضوع حلف «الناتو».
واستتباعاً، فإنّ العلاقة التحالفية بين باريس وواشنطن، والتي عزّز ركائزها إيمانويل ماكرون (الذي أفلت من هزيمة نكراء) كانت لتتعرض لضربة قوية وتفتح الباب أمام مشهد مبهم.
ولا بد أن يكون الزعماء المشاركون في المؤتمر السنوي لحلف «الناتو» والمُنعقد في واشنطن لمناسبة مرور 75 عاما على تأسيسه قد تنفسوا الصعداء، ولو أنّ دواعي القلق ستبقى موجودة، من جهة لأنّ موجة اليمين المتطرف الأوروبي ما تزال في حالة صعود، ومن جهة ثانية لأنّ الرياح الأميركية تجري بما يشتهيه ترامب. فحتماً كان طيف ترامب مخيّماً على اجتماعات «الناتو» على رغم من الكلمة القوية التي أدلى بها الرئيس الأميركي جو بايدن وبصوتٍ تَعمّدَ أن يكون واضحا وحازما. فهو كان يعرف جيدا أنه لا يخاطب فقط العواصم الحليفة في «الناتو»، بل خصوصا القاعدة الناخبة إثر أدائه الكارثي في المناظرة الأخيرة ضد ترامب.
والجميع يدرك أن حرب أوكرانيا شكلت منعطفا عالميا جديدا ومدخلا لإعادة تشكيل العالم مجددا بين المحور الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية والمعروف تقليديا، وبين محور جديد آخذ في التبلور وتتزعمه روسيا عسكريا والصين إقتصاديا. ومن هنا اعتبار عدد من المراقبين الغربيين أن التحديات التي تواجه حلف «الناتو» تقارب حدود الأسئلة الوجودية.
ولكن ما يهمنا في الشرق الأوسط أن هذا النزاع الدولي العنيف داخل القارة الأوروبية يُطاوِل الشرق الأوسط في الصميم، وهو ما يستوجِب النظر إليه بتمعّن. ففي القمة السابقة للناتو في 11 تموز من العام الماضي تم إقرار إستراتيجية جديدة تتضمن خطة تقضي بتجهيز القدرات لنشر نحو 300 ألف جندي في غضون 30 يوما في إطار قوة الردع السريع على الجانب الشرقي لأوروبا، أي في مواجهة روسيا. وإثر ذلك تزايد الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء. ما يعني اعتماد استراتيجية حربية ببرنامج تصاعدي تُحاكي زمن الحروب والمواجهات، وطي صفحة الإستراتيجية السابقة والتي كانت قائمة على تلبية الإحتياجات المطلوبة في زمن السلم. وهذا يتطلب بطبيعة الحال الحاجة الى أعداد أكبر من الجنود والأسلحة والذخائر. وليس خافيا أن الحرب الأوكرانية كشفت تراجع القدرات الحربية الأوروبية واللوجستية أيضا. فكان لا بد لهذه الدول من العودة الى الإستثمار في مجالات التسلح.
وهنا لا بد من التوقف ملياً أمام إعلان مؤتمر «الناتو» العام الماضي عن فتح مكتب في الأردن وهي خطوة تعتبر الأولى من نوعها، أضِف الى ذلك الزيارة الأولى التي قام بها الأمين العام لحلف «الناتو» الى السعودية في كانون الأول الماضي وكانت الحرب في غزة قد اندلعت قبل نحو شهرين، ما يؤشر الى موقع الشرق الأوسط الأساسي في الاستراتيجية الجديدة للحلف.
لكن هذا المشروع الكبير كاد أن يتلقّى ضربة موجعة في فرنسا والأهم التحدي الذي ينتظره مع الإنتخابات الأميركية. ومعه يصحّ القول انّ العالم بأسره بات رهينة النزاع الدائر على البيت الأبيض.
ولأنّ حرب أوكرانيا (والتي يبدو أنها ستطول كثيرا) كشفت عجز الإتحاد الأوروبي على تأمين مستلزماته العسكرية من دون الإعتماد على «الناتو» بقيادة أميركية تركز الإهتمام أكثر على مَن سيسكن البيت الأبيض في الشتاء المقبل. ولأن ترامب كان قد سار خلال ولايته الأولى في اتجاه الخروج من حلف «الناتو» وهو مستمر في إيحاءاته في هذا الإتجاه في حملاته الإنتخابية من خلال قوله انّ واشنطن لن تدافع عن جميع حلفائها، عمدت «الدولة العميقة» في الولايات المتحدة الى دَفع الكونغرس لإصدار قانون في كانون الأول الماضي يمنع بموجبه أي رئيس أميركي من تعليق عضوية الولايات المتحدة أو إنهائها من حلف «الناتو» أو حتى الإنسحاب منها من دون قانون صادر عن الكونغرس أو موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ. كما أنه ينبغي على الرئيس الأميركي إخطار الكونغرس قبل 180 يوما من الشروع في خطة الانسحاب.
ومن هنا يمكن فهم النزاعات العنيفة الدائرة حول الإنتخابات الأميركية، وحيث يبدو أنّ «الدولة العميقة» تتحرك بقوة لترتيب المسرح وفق ما هو مطلوب. وفي إشارة سريعة فإنّ هذه «الدولة العميقة» تضم المؤسسات العسكرية والأمنية والشركات العملاقة، إن كان في مجال التصنيع العسكري أو الدواء والتكنولوجيا. وتكفي الإشارة الى أن موازنة وزارة الدفاع الأميركية للعام 2024 بلغت 886 مليار دولار سيُخصّص نحو نصفها لشركات تصنيع السلاح وانتاجه وتلك التي تقدم «خدمات» مختلفة.
واستتباعاً، فإنه لا بد من الإستنتاج أن الانقلاب الذي شهدته الدورة الإنتخابية الثانية في فرنسا قد يكون تحقّق نتيجة جهود هائلة داخلية وخارجية أيضا. وأيضا لا بد هنا من طرح علامات استفهام كثيرة حول النزاع الذي احتدم داخل الحزب الديموقراطي الأميركي لاستبدال بايدن بمرشح أكثر حيوية وقبولاً لدى الناخب الأميركي.
وما يهمنا أنّ نُذُر «التعبئة» الدولية والمسار التصاعدي للنزاع مع روسيا والصين يطاول ساحات الشرق الأوسط الملتهبة من الأساس. فروسيا كانت قد تمددت في اتجاه الساحل الأفريقي لتتحكم أكثر بجنوب أوروبا، وعملت على الإطباق على الشريان البحري العالمي، أي قناة السويس، من خلال السعي الى تركيز قاعدة بحرية عند البحر الأحمر. وهي كانت قد عززت هذا الحضور من خلال قاعدة طرطوس في سوريا والساحل الليبي.
ومن هذا المنظار تنظر واشنطن الى البراكين المفتوحة في المنطقة وفي طليعتها حرب غزة. ومن هذه الزاوية أيضا تتعاطى مع التناقضات الموجودة أكانت سياسية أم دينية أم عقائدية.
ومن هذه الزاوية أيضا لا بد من قراءة أهمية الساحل اللبناني ولو أن الأزمة اللبنانية الداخلية لا تجد لها مكاناً وسط ازدحام الملفات والأزمات الداخلية للدول الكبرى.
وكثيرون راقبوا وقرأوا في نتائج الإنتخابات الإيرانية زوايا مختلفة. لكن ثمة إشارة ناعمة أرسلها مرشد الثورة من خلال فوز مسعود بزشكيان. وبخلاف التفسيرات التي شطحت كثيراً لدى البعض إلا أن الرئيس المنتخب هو إبن النظام القائم وإبن الثورة الإسلامية وليس أبداً ثورة على الثورة كما تهيّأ للبعض. لا بل على العكس فإنّ المرشد الذي فتح الطريق أمام وصول بزشكيان أراد معالجة الهوة التي تفصل بين السلطة وشرائح كبيرة من المجتمع الإيراني وخصوصا الشباب منهم، فلطالما كان الخطاب الرسمي الإيراني يبرز نسَب المشاركة والإقبال على الإنتخابات كدليل على شرعية النظام القائم.
لكن ما لفت على وجه الخصوص نقطتان في خطاب بزشكيان لا بد أن تكونا قد حظيتا بتفاهمٍ مسبق مع المرشد خامنئي. الأولى تتعلق بالتعهّد بإزالة العقوبات من خلال العودة الى الإتفاق النووي، أي باستعادة مرحلة روحاني التي شهدت توقيع الإتفاق. والثانية بتعديل التوجّه في السياسة الخارجية لجهة الإنفتاح على الشرق والغرب معا، وهو ما يناقض السياسة التي اتّبعت مع وصول ابراهيم رئيسي والتي ارتكزت على التوجه شرقاً.
ووجهة الرسالتين في كلتَي الحالتين هي واشنطن. والأهم في الرسالة الثانية الإيحاء أن طهران لن تكون مصطفة الى جانب من دون آخر. وقد يجد البعض تفسيرا لذلك يتعلق بالأوضاع الإقتصادية الصعبة، ولكن أيضا بالوحدة التي شهدتها إيران خلال أشهر الحرب المفتوحة. لا بل على العكس فقد تكون طهران شعرت بأنها مكشوفة في سوريا وسط الاستهدافات الإسرائيلية والصمت الروسي المريب. أضف الى ذلك ما يُحكى عن ترحيب روسي للرئيس السوري للبقاء خارج دائرة النزاع وتشجيع له على التقرب مع تركيا وسط ما يطرح عن قمة ثلاثية تركية ـ سورية ـ روسية ستعقد في اسطنبول وتغيب عن الصورة إيران.
وجاءت الغارة الإسرائيلية منذ يومين على محيط بانياس لتعزّز الإعتقاد بحرص موسكو على بقائها لاعبا وحيدا يمسك بالساحل السوري، إذ ان تنفيذ غارة إسرائيلية في هذه المنطقة الممسوكة من الجيش الروسي لا بد أن تكون قد نالت على الأقل عدم اعتراض روسي عليها.
لكن واشنطن تفاعلت ببرودة مع رسائل بزشكيان والذي في المناسبة اختار في أول رسائل ردوده تخصيصها للأمين العام لـ»حزب الله» حيث أكد دعم بلاده لمقاومة الحزب ضد إسرائيل، في وقت تتمسّك واشنطن والدولة العميقة فيها بإعادة رسم خريطة المنطقة بما يتلاءم مع النزاع الدولي القائم. والسياسة الأميركية معروفة تاريخياً بعدم الركون الى عامل التناقضات في المناطق التي تعتبر استراتيجية. فمن هذه الناحية هنالك أنانية مفرطة.
بعد أقل من أسبوعين سيزور نتنياهو واشنطن حيث سيلقي كلمة أمام مجلسي النواب والشيوخ قبل أن يلتقي بايدن الجريح. ولا شك في أن هذه الزيارة ستشكل مفصلا أساسيا في الحرب الدائرة على غزة وفي مستقبل الوضع في لبنان. ولا شك في أنّ تسريب خبر ضَم الوزير المتطرف بن غفير الى المجلس الوزاري المصغّر يعتبر إشارة سلبية مبكرة، وكذلك التحضيرات الجاري الحديث عنها في الجولان. يبقى أن ننتظر.