هو اشتباك رئاسي بامتياز وليس افتراقاً أبداً في العلاقة بين حليفين. والتصعيد حصل على الخلفية الرئاسية لاجتماع الحكومة، والرسائل السياسية التي حملتها. أراد رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل رفع السقف إلى الحدّ الأعلى الممكن لإطلاق رصاصة الرحمة على الخيار الرئاسي الذي يتبنّاه «حزب الله»، واضعاً اتفاق مار مخايل في مقابل خيار سليمان فرنجية الرئاسي.
«الحليفان» أي «التيار الوطني الحر» و«حزب الله»، يدركان جيداً انّ الاشتباك الرئاسي الحاصل له حدوده التي لن يتجاوزها أي منهما، وانّ استعادة «العلاقة التحالفية الطبيعية» مسألة وقت وهي حتمية. هذا ما يمكن قراءته بين سطور كلام باسيل الحاد. فهو ترك «مخارج العودة» مفتوحة، وأولها من خلال اشارة عدم تسمية «حزب الله» بالإسم، ولو انّ المقصود «بالوعد غير الصادق» واضح وضوح الشمس. و«حزب الله» ايضاً تعمّد عدم التعليق، وطلبت قيادة الحزب من جميع مسؤوليها ونوابها عدم التعليق ايضاً. لا شك في أنّ الامور ستأخذ بعض الوقت قبل استعادة «العلاقة التحالفية الطبيعية»، ما سيسمح بإيجاد المخارج المطلوبة للملف الرئاسي.
ذلك انّ «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» في حاجة بعضهما لبعض. «حزب الله» لا غنى له عن الغطاء المسيحي الذي يؤمّنه «التيار الوطني الحر»، والتيار في حاجة الى قدرة «حزب الله» ودعمه لتأمين مصالحه اليومية، كما حصل أخيراً في الانتخابات النيابية، وكما كان يحصل دائماً في التشكيلات الحكومية وفي الحياة السياسية اليومية. اذاً، فإنّ العودة الى العلاقة الطبيعية مسألة محتومة، لكن ثمة وقت مستقطع تفرضه الأجندة الرئاسية. باسيل لم يكن مرتاحاً لتمسك «حزب الله» بخيار فرنجية وبرهانه على انّ الوقت سيُتعب رئيس «التيار الوطني الحر» ويجعله يلين ويتراجع.
وحصل همس حول عدم ارتياح باسيل من الكلام الذي سمعه من الأمين العام لـ«حزب الله» خلال لقائه به، وتُرجم هذا الانزعاج لاحقاً بالكلام المسرّب لباسيل من باريس، وباللقاء الذي عقده مع رئيس المجلس النيابي، والذي وضع في خانة الالتفاف على «حزب الله». والواضح انّ «حزب الله» الذي يحاول التخفيف من وقع كلام باسيل، بوضعه في اطار ردّ الفعل المتوقع والطبيعي بهدف استيعابه، يدرك جيداً في الوقت نفسه أنّ خياراته ضاقت، وهو لم يعد امامه سوى حل من اثنين: إما العمل على إحداث تحول في موقف السعودية، او تبديل «القوات اللبنانية» موقفها. لكن كلا الخيارين حظوظهما ضعيفة، كي لا يُقال معدومة، وعندها سيكون «حزب الله» مضطراً لانتظار قرار فرنجية، ما يعني الانتظار بعض الوقت، وهو ما سيسمح له بانقشاع الرؤية الاقليمية وما ستحمله من تسويات.
وخلال الاسابيع الماضية حصل تواصل بين الرئيس نبيه بري و«القوات اللبنانية» عبر الزعيم الدرزي وليد جنبلاط حول الاستحقاق الرئاسي، «القوات» رفضت بالمطلق السير بخيار فرنجية، وطالبت بالمقابل بالذهاب الى التفاهم على خيار رئاسي بديل، وهو ما اعتبره بري بأنّه سابق لأوانه: «بعد بكير شوي».
ولأنّ الموقف الاخير لباسيل جاء بمثابة الضربة التي حرّكت الركود الذي كان قائماً حيال الملف الرئاسي، فإنّه لا بدّ من رصد الحركة التي سيقوم بها باسيل في الايام المقبلة. صحيح انّه غازل من بعيد «القوات اللبنانية» وفريق 14 آذار السابق، حين تحدث عن النفي او السجن او الاغتيال، الّا ان لا مؤشرات جدّية توحي بفتح قنوات التواصل بين باسيل وهؤلاء، على الرغم من موقفه الاخير، وذلك لسببين أساسيين:
الاول، اقتناع هذا الفريق بأنّ باسيل يبحث عن فك عزلته التي يعيشها بعد خروج الرئيس ميشال عون من قصر بعبدا، من خلال إعادة فرض نفسه كمعبر رئيسي إلى قصر بعبدا. والثاني، أنّه رغم الأضرار التي لحقت بالعلاقة بينه وبين «حزب الله»، الّا انّ الرابط الاستراتيجي بينهما لم ولن يتضرر. وسيعود باسيل بسرعة الى موقعه السياسي الطبيعي. لذلك الأرجح ان يتوجّه باسيل إلى بكركي ليضع بين يدي البطريرك الأسماء التي يرشحها لرئاسة الجمهورية. وفي هذا الوقت سيذهب إلى خيار التسمية في جلسات الانتخابات، ولكن بعد زيارته لبكركي.
وهو ما يعني توجيه ضربة إضافية لخيار فرنجية، ولكن هذه المرة من مجلس النواب، ذلك انّ خيار الورقة البيضاء، والذي كان يحجب تشتت الاصوات، سيصبح اقل عدداً بعد خروج تكتل «لبنان القوي» منه، وسيضع فرنجية في موقع أضعف.
ومن المنطقي الاعتقاد أنّ اللائحة الإسمية التي يحملها باسيل وباتت معروفة، والتي سيسلّمها للبطريرك الراعي، سيعمل الاخير على جسّ نبض القوى المسيحية الاخرى حولها، وفي طليعتها «القوات اللبنانية». لكن قرار «القوات» سبق وأبلغته الى المهتمين وهي ستكرّره، والذي يقوم على اساس رفض أي اسم يفتقد الى الشخصية السياسية الواضحة، وليس له علاقة او معرفة او ادراك فعلي للواقع على الارض، والاهم لم يجرِ اختباره فعلياً على ارض الواقع.
ووفق هذه المعايير، فإنّ الاسماء التي تحملها لائحة باسيل تُعتبر خارج السياق، لا بل انّ الامين العام لـ«حزب الله» لاذ بالصمت حين حمل باسيل لائحته الرسمية المؤلفة من اربعة اسماء، وفُسّر الصمت بمثابة الرفض المهذّب.
الاكيد أنّ الصدام الذي حصل، بدءاً من الموضوع الحكومي و«الرسائل الرئاسية» التي حملها، وصولاً الى رسائل باسيل المضادة، ادّى الى تحريك الملف الرئاسي، لكن ذلك لا يعني قرب انتهاء مرحلة الشغور الرئاسي. غالب الظن انّ تصاعد الحماوة وعملية شدّ الحبال لن يؤديا الى ايجاد الحلول، ولذلك لا بدّ من انتظار حركة خارجية دافعة.
في الكواليس كلام حول زيارة «قطرية» إلى لبنان مطلع السنة المقبلة، وستتضمن سعياً لتقريب وجهات النظر، لكن هذه الحركة «القطرية» لن تكون كافية لتحقيق الانجاز المطلوب، في وقت يغمز البعض حول وجود قطبة مخفية لزيارة باسيل الأخيرة للدوحة
غالب الظن انّه لا بدّ من انتظار التطورات الموعودة على مستوى الاتفاق النووي مع ايران، والذي سيفتح الباب امام انجاز التسوية الرئاسية في لبنان من ضمن تسوية كاملة حيال عناوين المرحلة المقبلة وبرنامجها.
وقد تكون هذه اللحظة في حاجة إلى صدمة داخلية تؤدي الى فتح الابواب على مصارعها.
باختصار، الحركة بدأت، ولكن «البركة» في حاجة إلى عناصر اضافية لم تتأمّن بعد، وإلى أحداث تؤدي لإنضاج الملفات المعقّدة.