كتب وليد شرارة في “الأخبار”:
بقي جورج قرم مهجوساً بمستقبل العرب، ومنبّهاً إلى حجم التحديات والمخاطر التي يواجهونها كشعوب ودول حتى لحظاته الأخيرة. انتمى قرم (1940-2024) إلى فئة المفكرين الموسوعيين الذين يصعب عادة حصر مساهماتهم في حقل معرفي واحد. فالمطّلع على أعمال هذا المؤرّخ والمفكر الاقتصادي والسياسي، الممتدة على مدى أكثر من أربعة عقود، يلحظ أولاً طبيعتها العابرة للاختصاص، التي تسم مساهمات كبار المفكرين العرب/ العالميين كإدوارد سعيد، وأنور عبد الملك، وسمير أمين، وغيرهم من الذين قدّموا قراءاتهم لأحوال العرب في سياق عالمي، وشاركوا في الحوارات العالمية الكبرى من منظور عربي.
الأزمة الوجودية التي تعصف بالعرب، ومسبباتها الرئيسية، الخارجية والداخلية، والمقدّمات الضرورية لمواجهتها، هي الموضوعات التي ترسم خطاً بيانياً يربط بين أعمال قرم، حتى عندما يتصدى لتطورات كونية، كما فعل في «الفوضى الاقتصادية العالمية الجديدة» و«حكومة العالم الجديدة» و«أوروبا وأسطورة الغرب».
مواجهة المقاربة الثقافوية
تزامن صدور الكتاب الأوّل لجورج قرم باللغة الفرنسية «انفجار المشرق العربي»، في بداية ثمانينيات القرن الماضي، مع انطلاق ما يمكن تسميته من دون تردّد ثورة مضادة أيديولوجية استعمارية عبّرت عنها مجموعة الفلاسفة الجدد وكتّاب من أمثال ف. س. نايبول، وباسكال بروكنير، مؤلّف «دموع الرجل الأبيض». هدفت هذه الثورة إلى تبرئة القوى الاستعمارية الغربية من مسؤولياتها التاريخية والراهنة عمّا آلت إليه أوضاع بلدان الجنوب وشعوبه، ومنهم العرب، والتأكيد على أن البنى الثقافية والاجتماعية-النفسية لهذه الشعوب ومعتقداتها الدينية هي السبب العميق وشبه الحصري لأزماتها المزمنة. وقد تعاظم تأثير هذه الأطروحات مع التحولات الكبرى التي شهدها العالم في أواخر عقد الثمانينيات وبداية التسعينيات وانهيار الاتحاد السوفياتي ووهم الانتصار الأميركي وانتشار خطاب نهاية الأيديولوجيات الذي تلته بفترة وجيزة نظرية صراع الحضارات، التي أضحت نموذجاً إرشادياً جديداً لفهم العلاقات الدولية، وكان لها تأثير كبير على الأكاديميا الغربية، وعلى جيوش الخبراء والمحللين والإعلاميين عند تناولهم القضايا العربية.
قدّمت المقاربة الثقافوية المرتكزات الأيديولوجية لاستمرار سياسات العداء والحرب والسيطرة التي تعتمدها القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة تجاه الشعوب العربية وللإصرار على تجاهل تطلعاتها للسيادة والعدالة والتقدم.
ستبقى مساهماته ذخيرة فكرية أساسية لمن لا يزال يدافع عن حق العرب في تقرير المصير والنهضة
من «انفجار المشرق العربي» إلى «المسألة الشرقية الجديدة»، مروراً بـ«أوروبا والشرق» و«شرق-غرب: القطيعة المتخيلة» و«المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين» وغيرها من المؤلفات المهمة، قدّم جورج قرم «قراءة غير دينية للصراعات»، وهو أيضاً عنوان لأحد كتبه، وبحثاً معمّقاً في الخلفيات الجيوسياسية والجيواقتصادية للزلازل والانفجارات التي تشهدها المنطقة العربية وانعكاساتها الكارثية على الديناميات السياسية والاجتماعية الداخلية فيها. استخدم قرم الأدوات النظرية للعلوم السياسية والإنسانية، في مواجهة نظريات ثقافوية وأنتروبولوجية تعود جذورها المعرفية إلى بدايات عصر الاستعمار في القرن التاسع عشر، لتحليل وشرح الأزمات المستعصية والمستفحلة في المنطقة، وكشف الصلة العضوية بينها وبين سعي القوى الغربية لتأبيد هيمنتها السياسية والاقتصادية عليها عبر زرع الكيان الصهيوني في قلبها، ودعم الممالك والإمارات النفطية، وضرب مشاريع الاستقلال والنهضة التي مثّلها تيار القومية العربية، وفي مقدّمته مصر الناصرية.
موقف قرم المؤيّد للأهداف الأساسية للقومية العربية، لم يمنعه من توجيه نقد صريح ومباشر إلى العديد من خيارات وسياسات الأنظمة التي حملت رايتها من موقع الحرص على تجنب تكرار الأخطاء عند إعادة بناء مشروع عربي تحرري.
النيوليبرالية أو البربرية الجديدة
جورج قرم هو أحد أول المفكرين العرب الذين أيقنوا في وقت مبكر جداً (عام 1992)، عند صدور كتابه «الفوضى الاقتصادية العالمية الجديدة»، بالمخاطر الكبرى التي يشكلها تحرر الرأسمال من الضوابط السياسية والاجتماعية بالنسبة إلى غالبية شعوب العالم، وبشكل خاص إلى الشعوب العربية. وهو يوضح في كتاب صدر في عام 2010، «حكومة العالم الجديدة»، كيفية تحوّل قوى رأس المال، من شركات كبرى عابرة للقوميات ومؤسسات مالية ومؤسسات اقتصادية ومالية دولية، إلى نوع من مجلس لإدارة العالم ومركز صنع القرار الفعلي الذي يخضع له قسم كبير من حكومات المعمورة. يطرح في الكتاب أيضاً المبادئ والأسس لبلورة خيار بديل من العولمة المتوحّشة، مستنداً إلى أبحاثه وأبحاث عدد من المفكرين الاقتصاديين النقديين، كفرنسوا بارتان، التي تم تجاهلها من قبل «العلوم الاقتصادية» السائدة، وقد أصبحت هي الأخرى خاضعة لطغيان رأس المال.
مساهمات جورج قرم ستبقى ذخيرة فكرية أساسية لمن لا يزال يدافع عن حق العرب في تقرير المصير والنهضة، ويؤمن بإمكانية بناء عالم أفضل.