ناصر قنديل
– يروّج قادة الكيان في المستويين السياسي والعسكري رواية تقول إنهم حققوا تقدماً نوعياً على المستوى العسكري في حربهم البرية على غزة، لأن القتل والتدمير اللذين كانت لهما وظيفة سياسية فشلا فشلاً ذريعاً في تحقيقها، مثلهما مثل نظام العقوبات الأميركي على سورية، وفقاً لوصف الدبلوماسي الأميركي الصهيوني مثل رئيسه الديمقراطي مثله جو بايدن، جيفري فيلتمان الذي قال في مقال شهير حول العقوبات على سورية إنها تعذب الناس وتقوم بتجويعهم وتتسبب بموتهم، لكنها لا تحدث أمرين يفترض أنها صمّمت لتحقيق أحدهما أو كليهما، وهما دفع الشعب للانقلاب على قيادته السياسية من جهة، ودفع القيادة السياسية للتراجع عن سياساتها من جهة مقابلة. وكما أن العقوبات وفق تقرير فيلتمان لم تحقق هذه ولا تلك، فإن عمليات القتل المفتوح والتدمير الشامل لم تحقق هذه ولا تلك. فالناس رغم عظيم التضحيات والأخطار الهائلة المحدقة متمسكون بمقاومتهم ومتماسكون معهاً، ولن يغادروا أرضهم ولو استشهدوا تحت ركام بيوتهم، والقيادة السياسية متمسكة بموقفها ولن تتراجع، فماذا حققت العملية العسكرية؟
– المعلومات التي يتداولها إعلام الكيان وتلك التي يتداولها إعلام المقاومة، واحدة، وهي أن جيش الاحتلال استطاع أن يحقق خرقاً على أطراف قطاع غزة، خصوصا الشمال الغربي والشمال الشرقي، سواء من جهة بيت حانون أو من جهة بيت لاهيا أو العطاطرة، ونجح بإحداث لسان في وسط القطاع لفصل الشمال عن الجنوب، متقدماً من جهة حي الزيتون وجحر الديك شرقاً نحو شارع صلاح الدين في الوسط وصولاً الى شارع الرشيد غرباً، ويحاول البناء على رؤوس الجسور التي أنشأها بتموضع دباباته في نقاط متقدمة بهدف التقرب من أهداف جدية للحرب، هي مخيم جبالياً ومخيم الشاطئ وفي نهاية الطريق السعي لتقطيع مدينة غزة الى مربعات، واذا وضعنا النيات التي لا تزال نيات، فإن التقدم المحقق في أطراف القطاع ووسطه لا يمثل إنجازاً عسكرياً بذاته لأنه جرى في مناطق زراعية مفتوحة، ومتوقع سلفاً أن يتقدم فيه جيش الاحتلال، وقيمته بمفاعيله وليس بذاته. فهل يمكن لجيش الاحتلال التحدث، كما يقول قادته عن محاصرة غزة والاستعداد للتقدم نحوها؟
– من الزاوية العسكرية فإن المعارك الحقيقية لم تبدأ بعد بالنسبة لجيش الاحتلال للحكم على جدارته، ولا يمكن للتقدم أن يتحول إلى انجاز عسكري بذاته، بمعزل عن مفاعيله، إلا إذا نجح جيش الاحتلال في إحراز تقدم جدي داخل التجمعات التي يستعدّ لاقتحامها، جباليا والشاطئ، لكن بالمقابل فإن الحكم ممكن لصالح أداء المقاومة التي فتحت الطريق لتقدم دبابات جيش الاحتلال في المناطق المفتوحة، وتلقفتها ولا تزال تمطرها، بصواريخها المضادة للدروع في خطوط التماس على أبواب المناطق السكنية والتجمعات المستهدفة، ووفق التسجيلات التي تنشرها قوات القسام، خسر الاحتلال عشرات الآليات ومعها رقم يعادل أضعاف ما يعترف به الاحتلال من الخسائر البشرية في الجنود والضباط.
– يبقى الحكم على المفاعيل، أي أن هذا التقدم سواء شرقاً أو غرباً وشمالاً أو لسان الوسط، يستحق الخسائر والأكلاف إذا كان صحيحاً، أنه يعني ما قاله جيش الاحتلال من تمكينه بمحاصرة المقاومة في غزة وقطع تواصلها بين الشمال والجنوب تمهيداً لتقطيع أوصال آخر، داخل الشمال ثم داخل الجنوب. والسؤال هنا بالنسبة للمقاومة وليس بالنسبة للمواطنين، كما في حال العقوبات الأميركية عموماً، والقصف التدميري على غزة بالخصوص، فالإطباق على غزة وتعقيد التنقل بين شمالها وجنوبها، يعقد حياة أبناء غزة، لكنه لا يقدّم ولا يؤخر في حال المقاومة، التي تملك شبكة هائلة من الأنفاق تحت غزة. ومن الثابت عبر فاعلية خطوط الاشتباك وإطلاق الصواريخ وتحريك مدافع الهاون وتأمين الذخائر، ومنظومة الضبط والسيطرة، إنها لم تتأثر بالذي يجري فوق الأرض. وهذا يعني أنه حتى لو نجح الاحتلال بتقطيع أوصال شمال غزة ومدينة غزة، فإن غزة التي تقبع تحت الأرض، وتختزن المقاومة، ستبقى كتلة موحّدة تتحرك بفاعلية وتخرج من حيث تريد وتقاتل ثم تعود إلى مخابئها، وكل الخبراء العسكريين من قادة سابقين في جيش الاحتلال ومخابراته يُجمعون على أن المعركة لم تبدأ بعد، وأن المقاومة لم تقل كلمتها الفاصلة بعد.
– هناك مستويان محوريان يقرران مصير القتال الدائر في غزة، بين قوتين ثبت في مواجهة 7 تشرين الأول في غلاف غزة، أنهما بأحسن الأحوال متعادلتين في الكفاءة التكتيكية والمهارة القتالية والقدرة التخطيطية، علماً أن مسار معارك طوفان الأقصى يقول بتفوّق المقاومة. والمستويان هما، أولاً الروح التي تقاتل، والثابت أن معنويات المقاومة في السماء ومعنويات جيش الاحتلال تحت الأرض. وثانياً الجغرافيا، حيث الاحتلال عطش لصورة تثبت فوزه بالجغرافيا، فيسهل اصطياده واستدراجه وحركته الثقيلة المكشوفة كجيش نظامي مدجج بالأسلحة المدرعة تجعله هدفاً سهلاً، بينما مقابله مقاومة خبرته وتعرف كيف تقاتله، ولذلك لا تخشى الانكفاء من الجغرافيا لضرورات القتال، وعندها جغرافيتها الخاصة التي تتحرّك فيها بمرونة عالية دون أن تتأثر بما يجري في جغرافيا فوق الأرض التي يتوهم الاحتلال أنه سيطر عليها قبل أن يضطر للانكفاء كما جرى معه مراراً في الأيام الماضية.
– بين الاحتلال والمقاومة حتى الآن معادلة: واحد هو الاحتلال وجغرافيته في السماء بواسطة طائراته ومعنوياته منهارة تحت الأرض، وطرف هو المقاومة ومعنوياته في السماء وجغرافيته تحت الأرض لم يمسّها الأذى.