تعليق القرض الخاص بخطة النقل لبيروت الكبرى: البنك الدولي يلتزم سياسة الحصار

في كل مناسبة، يُردّد مسؤولو البنك الدولي عبارة «ضرورة قيام لبنان بإصلاحات جذرية في العديد من قطاعاته»، كشرط أساسي للحصول على المساعدة والتصدّي للانهيار. ثم ينشر هؤلاء «استشاراتهم» على أنها تساهِم في التخلص من المشاكل الاقتصادية وسداد الدين ووقف العجز ورفع الناتج المحلي. وحين يحين وقت الفعل يتراجع «المجتمع الدولي» عن وعوده ليزيد الضغط من أجل إخضاع لبنان لكامل الشروط السياسية والاقتصادية والقانونية والإدارية. آخر «أفعال» هذا «المجتمع الدولي»، كان قرار البنك الدولي بـ«تعليق جزئي» للقرض المقرر لمشروع النقل العام الخاص ببيروت الكبرى بسبب «عدم التزام لبنان بتنفيذ نصوص العقد الموقع». علماً أن المبررات التي وضعها البنك الدولي تتناول نقاطاً سبقت الاتفاق بينه وبين وزارة الأشغال على إعادة هيكلة القرض

في 22 كانون الأول الماضي، عُقد لقاء بين المدير الإقليمي للبنك الدولي في الشرق الأوسط ساروج كومار ووزير الأشغال العامة والنقل علي حمية بناء على طلب الأول، نوقش فيه مشروع النقل العام لمدينة بيروت الكبرى المُموّل من البنك الدولي بقيمة 295 مليون دولار (نقصت قيمته عشرة ملايين دولار نقلت إلى مشروع آخر).

الضيف الدولي قدم تقييماً سلبياً للمشروع بسبب «وجود معوّقات تعترِض تنفيذه، من بينها عدم تنفيذ مشروع توسعة أوتوستراد جونية»، فضلاً عن «صعوبة تنفيذه بمكوناته الحالية التي تعتمد على تنفيذ BRT (نظام النقل السريع ضمن مسار مخصص لآليات النقل بين بيروت وطبرجا وطرقات محددة داخل بيروت)»، مشيراً إلى أن البنك الدولي «سيُمانِع إقرار أية مشاريع تمويلية جديدة للبنان قبل الاتفاق بين لبنان وصندوق النقد». وطرح المسؤول الدولي عدداً من الخيارات التي يُمكن اعتمادها، محدداً الأسبوعين الأولين من كانون الثاني كمهلة لمعرفة جواب وزارة الأشغال حول الخيار الذي ستعتمده، قبل الحصول على موافقة المراجع المختصة في البنك الدولي.

عاد حمية إلى كومار بعد ثلاثة أيام فقط من الاجتماع، وأبلغه اعتماد خيار «إعادة هيكلة القرض المخصّص لمشروع النقل العام في بيروت الكبرى لخدمة البنية التحتية للنقل المشترك من دون شراء أي حافلات نقل، إضافة إلى تخصيص مبلغ من القرض لإعادة إعمار المرفأ». فردّ المدير الإقليمي للبنك الدولي بأنه «سيُرسلِ فريقه التقني للبحث في تفاصيل هذا السيناريو». وفي 22 شباط الماضي، عُقد اجتماع ضم حمية وفريقه التقني وممثلين عن مجلس الإنماء والإعمار والبنك الدولي، تمّ خلاله الاتفاق على الإطار العام لهيكلة القرض. وبعد جلسات عدة، أعدّت الوزارة مشروع «إعادة الهيكلة المقترحة» بناء على النقاشات التي جرت، وأرسلتها إلى كومار في 17 آذار الماضي، لكنها لم تتلقَ أي جواب، إلى أن كانت «المفاجأة».


قبل نهاية آذار الماضي، بعث البنك الدولي برسالة إلى حمية ووزير المالية يوسف خليل يبلغهما «قرار البنك الدولي التعليق الجزئي لصرف القرض المقرر للمشروع». وفي الرسالة التي اطلعت «الأخبار» على نصها، برّر البنك الدولي قراره هذا بأن «المشروع منذ توقيعه في 9 تموز 2018، لم يحرز أي تقدّم. علماً أن البنك طلبَ مراراً وتكراراً من حكومة لبنان تعيين مستشار مالي لتحضير دفاتر الشروط للمعاملات، وإصدار خطة عمل تحدّد خطوات تمكين تنفيذ المشروع». وأشارت الرسالة إلى أن «المقترِض لم يلتزِم ببنود العقد الموقّع، والتي ينصّ أحدها على أن تقوم الجهة المُنفذة للمشروع بتزويد البنك سنوياً بخطط عمل وميزانيات تحدد جميع الأنشطة التي ستدرج في المشروع خلال السنة المالية التالية وخطة تمويل مقترحة للنفقات اللازمة، وإتاحة فرصة معقولة للبنك لتبادل الآراء مع الجهة المنفذة للتأكد من تنفيذ المشروع وفقاً لخطة العمل والميزانية الموافق عليها من البنك». ومن بين البنود أيضاً «تعيين مستشارين ماليين في موعد لا يتجاوز 18 شهراً من تاريخ إنفاذ العقد، لتقديم استشارات تتعلق بتمويل وهيكلة الأنشطة مثل: تشغيل أسطول حافلات النقل السريع وصيانة البنية التحتية المرتبطة به من خلال شراكة بين القطاعين العام والخاص، وتركيب أنظمة النقل الذكية ونظم تحصيل الأجرة التي تتضمن تكنولوجيات البطاقات الذكية والنظام العالمي لتحديد المواقع (GPS) من خلال شراكة بين القطاعين العام والخاص، واقتناء وتشغيل وحدة مغذية منتظمة للحافلات البرية تتضمن تكنولوجيات البطاقات الذكية والنظام العالمي لتحديد المواقع والنظم المناسبة للاتصالات عن بعد من خلال شراكة بين القطاعين العام والخاص». وختم البنك الدولي رسالته بأنه «سيتمّ تعليق صرف القروض اعتباراً من أول نيسان، وإذا لم يتلقّ البنك دليلاً مقنعاً في نهاية الشهر الجاري (الماضي)، بأن المقترض أو الجهة المنفذة للمشروع ستستكمل التنفيذ بشروط البنك، أي من خلال تعيين مستشار مالي وتوقيع عقد إجراء تقييم للنقل المشترك، فضلاً عن إصدار خطة تحدد خطوات تمكّن من تنفيذ المشروع، فإنه يجوز للبنك الدولي أن يُنهي كلياً أو جزئياً حق المقترض في إجراء عمليات سحب من حساب القرض».

المفارقة، أن البنك الدولي اعتبر في رسالته أن «الاجتماعات العديدة على المستوى الفني لم يتمّ فيها إحراز أي تقدّم، كما أن المقترض أو الجهة المنفذة لم تمتثِل للالتزامات»، علماً أن إعادة الهيكلة المقترحة التي أرسلتها الوزارة اعتمدت على أجواء النقاشات مع فريق البنك الدولي ذاته. وترتكز رؤيتها على أسس ثلاثة، هي «إجراء مسح لكامل الأراضي اللبنانية عبر إعداد مخطط توجيهي للنقل المشترك، ووضع إطار قانوني ينظم العلاقة بين القطاعين العام والخاص لتصبح الدولة هي المنظمة لقطاع النقل والقطاع الخاص هو المشغل، إضافة إلى التمويل الذي سيؤمنه البنك الدولي». وتتضمن الخطة «إنشاء محطات انتظار وتوقف داخل العاصمة، وصولاً إلى جوارها بإقامة ثلاث محطات تسفير كبرى منها إلى الشمال والجنوب والبقاع»، ومن هذه المحطات الثلاث «تصل خطوط النقل إلى 25 محطة تسفير كبرى، واحدة لكل قضاء، مع كل الخدمات فيها. وانطلاقاً من هذه المحطات، تنطلق خطوط النقل إلى كل بلدة داخل القضاء، وفقاً لخريطة تفصيلية لبلداته».


لكن بمعزل عن هذه التفاصيل، فإن اللافت هو إصدار البنك الدولي قراره بعدَ تفعيل العمل بالخطة، بحجة «عدم تنفيذ الدولة شروط العقد منذ عام 2018»، علماً أن فريق البنك الدولي نفسه الذي اعتبر مشروع الـ BRT ميتاً وكانَت هناك محاولات لتحويل مخصصات القرض لتمويل البطاقة التمويلية، هو من عاد للعمل مع حمية وفريقه على خيار إعادة هيكلة القرض ووضع خطة جديدة (بناء على طرح المدير الإقليمي للبنك الدولي). بمعنى أن القرار لا يستنِد إلى الورشة التي بدأها حمية وفريقه، بل إلى طريقة الإدارة السابقة للقرض. فلماذا لم يُتخذ قرار التعليق سابقاً رداً على التسويف الذي كان سائداً، بينما صدر مع بدء العمل الجدي لتنفيذ الخطة؟ وهل يريد البنك دولي إصلاحات بما يخدم الشعب اللبناني أم بما يخدم سياساته وشروطه؟

تعليقاً على الرسالة، أبدى حمية استغرابه من هذا القرار. وقال لـ«الأخبار»: «لقد أبدينا كل انفتاح وأكدنا مراراً استعدادنا للتعاون مع البنك الدولي لما فيه مصلحة للبلد. وعملنا على وضع الإطار القانوني ونعمل على المخطط التوجيهي لمرفأ بيروت، وما زلنا مستمرين في وضع خطة فعالة لقطاع النقل، ونحن مستعدون لاستكمالها مع البنك الدولي، وهي أول خطة تلامس كامل الأراضي اللبنانية». ولفت إلى أن «مبررات القرار غير مُقنعة. فهي تتصل بعمل المرحلة التي سبقت وصولنا إلى الوزارة، ثم إننا بدأنا مع البنك الدولي ورشة جديدة بناء على الخيار الذي طرحه كومار نفسه وهو إعادة هيكلة القرض، وإلا لماذا عقدنا كل هذه الاجتماعات؟».
وتعليقاً على الشروط التي حددتها الرسالة، تساءل حمية: «هل يريد البنك الدولي تنفيذ إصلاحات تخدم الشعب اللبناني أم تخدم شروطه؟ فهو عليه أن يتخذ قراراً بناء على إعادة الهيكلة المقترحة التي أرسلناها له، وليس على أداء سابق لا علاقة لنا به»، مشيراً إلى «أننا مستعدون للتعاون مع البنك الدولي لكن وفقَ آليات لا تقوّض مبادراتنا وسيادتنا أو استقلالنا الاقتصادي».

قد يكون المنسق الفرنسي لبرنامج المساعدات الدولية بيار دوكان أكثر الأجانب صراحة حيال ما يُمكن، أو ما يريد، العالم تقديمه للبنان. فقد سبق له أن أبلغ صراحة عدة مسؤولين لبنانيين، من بينهم وزير الأشغال علي حمية، أنه من «دون اتفاق مع صندوق النقد الدولي لن يكون هناك إحياء لمؤتمر سيدر ولن تأتي المساعدات الدولية إلى لبنان، ولن يكون هناك أي دفعة من صندوق النقد للشروع بعملية الهيكلة أو مساعدة بعض المرافق كالمرافئ والمطار وغيرها». وشرح دوكان نتائج الاتصالات الفرنسية بالسعودية ودول خليجية حول لبنان مكرراً: «هؤلاء لن يقدموا أية مساعدات مالية للدولة اللبنانية قبل إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهذا ما حصل مع مصر والأردن، والمدير العام للصندوق الكويتي للتنمية كويتي وليس سعودياً، والمدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي مصري، وهما أيضاً يصران على حدوث الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أولاً وقبل كل شيء».


يعتقد وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية أن في إمكان كل وزارات الخدمات في لبنان وضع خطط عملية لتفعيل المرافق الخاصة بها، ما يتيح زيادة الواردات للخزينة من دون ربط أي تقدم ببرامج المساعدات الدولية. وقد أعد حمية تصوراً لتأهيل وتفعيل وتطوير مرفأ بيروت ومطار رفيق الحريري الدولي وملف إشغال الأملاك العامة البحرية لزيادة واردات الدولة من دون الاتكال على الدعم الخارجي فقط، يتضمّن مثلاً تعديلات على الجدول رقم 9 (الخاص بالوكالات الحصرية) الذي يرد في الموازنة العامة. إذ إن الوكلاء يتقاضون عائداتهم بالدولار الأميركي ويدفعون الرسوم الخاصة بالدولة بالليرة اللبنانية وفق تسعيرة 1500. وسيكون هناك اقتراح باعتماد التعرفة بالدولار الأميركي، مما يعود على الخزينة بنحو 150 مليون دولار، بطريقة لا تمس جيوب المواطنين.


في ما يتعلق بالأملاك العامة البحرية، فقد أعدت وزارة الأشغال دراسات أشارت إلى وجود مساحات تقدّر بـ 5 ملايين متر مربع، وهي عبارة عن مسطحات مائية وردم وأملاك عامة بحرية عائدة للدولة اللبنانية، يوجد نحو 1200 إشغال عليها، بينها 70 إشغالاً تعمل بمرسوم، بينما يعمل نحو 1068 بشكل غير قانوني. ومع أن حمية قرر عدم توقيع أي عقد صيانة سنوية لهؤلاء، فإن تطبيق القانون الحالي يسمح للخزينة بتحصيل نحو 1000 مليار ليرة، (على أساس سعر الصرف الرسمي للدولار أي 1500)، ما يتيح للخزينة تحصيل بين 200 و250 مليون دولار.


من جهة أخرى، تعمل وزارة الأشغال على وضع دفاتر شروط جديدة بصورة مسبقة للتعامل مع عقود الاستثمار في مطار بيروت الدولي، لجهة عقد استثمار السوق الحرة أو المواقف الخارجية للسيارات أو عقود المطاعم والمقاهي داخل المطار أو عقود استثمار المساحات من قبل شركات سياحية خاصة بخدمات الفنادق وتأجير السيارات وبيع الهواتف.

ويفترض أن تسعّر العقود الجديدة بطريقة مختلفة، خصوصاً أن العقود الحالية تسمح للمستثمرين باستمرار الدفع بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف الدولار 1500، بينما تجبي أرباحها وتبيع خدمات على سعر دولار السوق السوداء، وقلة منها تعمل وفق سعر الـ 8000 ليرة. وتدرس الجهات المعنية في وزارة الأشغال إعداد دفاتر شروط جديدة لفتح الباب أمام مزايدات جديدة قبل شهور من موعد انتهاء مدة العقود. من جهة أخرى، تنتظر وزارة الأشغال موقف مجلس الوزراء من مشروع إدخال تعديل على طريقة احتساب القيمة التأجيرية للأرض المستثمرة من قبل نادي الغولف، والتي تتراوح بين 75 و250 مليون ليرة سنوياً، وهو مبلغ لا يُمكن تبريره، بخاصة أن إدارة النادي تستوفي من الأعضاء المنتسبين أو الرواد مبالغ تفوق هذه القيمة بعشرات الأضعاف، كون التسعير يتم على أساس سعر الدولار بحسب السوق السوداء.

Exit mobile version