منذ عدّة سنوات، لم تعُد فرضية التطبيع التركي – السوري، بمساعدة أو حتى برعاية روسية، احتمالاً مستبعداً. من الممكن تعداد أسباب كثيرة، داخلية تركية وخارجية، لمثل هذا الأمر، لكن يبقى السبب الرئيس هو الفشل الذريع لرهانات أنقرة على قلْب النظام في دمشق، والنتائج العكسية التي نجمت عنها بالنسبة إلى الأولى. وبما أن سوريا لم تكن الطرف الذي بادر إلى اعتماد سياسة معادية حيال جارتها الشمالية، بل إن الأخيرة هي التي تقاطعت مع مجموعة من الأطراف الدولية والإقليمية على شنّ حرب حقيقية عليها، فإن دمشق، بعد انكسار المعتدين، لن تُعارض أيّ خيار يسمح لها باستعادة سيادتها على أراضيها. لقد مضى زمن بعيد على تبدّد أحلام أنقرة بتزعّم الإقليم العربي – الإسلامي، وأتت سلسلة المصالحات التي شرع بها الرئيس التركي مع عدد من نظرائه العرب، كترجمة عملية لذلك الواقع.
يربط الكثيرون بين هذه التوجّهات والحسابات السياسية والانتخابية الداخلية لرجب طيب إردوغان وحزبه، وهي بلا شكّ ضمن الدوافع التي تفسّرها، لكن التوجّهات المذكورة تندرج أيضاً ضمن عملية إعادة تموضع تركية في السياقات الدولية والإقليمية المتحوّلة. فقد اتّضح للعديد من المعنيين، من مسؤولين سياسيين وخبراء ومراقبين، بعد التطوّرات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، أن «تركيا شريك لا بدّ منه»، وفقاً لعنوان كتاب ديدييه بيغو، أحد أبرز الخبراء الفرنسيين في الشؤون التركية. أتاحت الحرب في أوكرانيا تظهير حقيقة التغيير الذي طرأ على بنية العلاقات الدولية، وإحدى سماته الأبرز اتّساع هامش استقلالية بلدان الجنوب، الوازنة جيوسياسياً و/أو جيو – اقتصادياً، تجاه الأجندات الاستراتيجية الأميركية والغربية، ورفْضها الخضوع لإملاءاتها. تقف تركيا في مقدّمة تلك البلدان، لأنها نجحت في بناء شبكة واسعة من الشراكات وصِيغ التعاون المختلفة مع القوى غير الغربية الصاعدة كالصين وروسيا وبقيّة دول الجنوب، مع الاحتفاظ بعلاقات التحالف والتبادل الاقتصادي والتجاري مع بلدان الغرب. حلّت المقاربة البراغماتية، المستندة إلى أهمّية الموقع الجيوسياسي لأنقرة، ووزنها الاقتصادي ورأسمالها السياسي، المتمثّل في شبكة الصلات القوية التي تمتلكها مع اللاعبين الدوليين الرئيسين، في مكان أوهام الزعامة الإقليمية، لتؤسّس لِما يسمّيه بيغو «دبلوماسية الـ 360 درجة»، أي الانفتاح على الجميع، وتعظيم المكاسب على قاعدة ذلك.
قد يقول البعض إن ذلك النهج ليس سوى استعادة لسياسة «صفر مشاكل» مع الجوار، وغيرها من الأطروحات التي قدّمها وزير الخارجية التركي الأسبق، أحمد داود أوغلو، في كتابه «العمق الاستراتيجي»، لكن الظروف الدولية والإقليمية الحالية، المختلفة عن تلك السائدة في فترة صدور هذا الكتاب (2010)، والتي يتمّ في إطارها اتّباع النهج المذكور، تعني أن المفاعيل الناتجة منه ستكون بدورها مختلفة. فتراجُع الهيمنة الغربية، والذي كانت إرهاصاته قد بانت في العقد الأول من الألفية الثانية، وما استتبعه من تحوّل في موازين القوى الدولية، قد أضحيا أكثر جلاءً الآن مع احتدام المواجهات بين واشنطن ومعسكرها من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. وعلى الرغم من أن أنقرة عضو في «الناتو» منذ 1952، وشريك اقتصادي وتجاري أساسي للاتحاد الأوروبي، فإن اتّخاذها موقف «الوسيط» في الحرب الأوكرانية، ورفْضها فرْض عقوبات على روسيا، وأيضاً شراكتها المتنامية مع الصين، كلّها تؤشّر، إلى جانب مواقفها الأخرى من إيران ومن فنزويلا مثلاً، إلى عمق الانزياح الاستراتيجي الحاصل في تموضعها الإقليمي والعالمي. وما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن انزياح تركيا، والتزامها بأجندتها الخاصة على حساب الأجندة الغربية، قد توازى مع اختفاء الأصوات الكثيرة، الأميركية والأوروبية، التي كانت تطالب بإخراجها من «الناتو» في السنوات الماضية، بل وتعامُل الأطراف الغربية معها على أنها شريك حيوي لا يمكن تجاهل شروطه، كما تبيّن خلال اعتراضها على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف بسبب إيوائهما مسؤولين في «حزب العمال الكردستاني».
إنهاء الوضع القائم في شرق الفرات، والذي ترى فيه أنقرة نواة لمشروع كردي انفصالي مدعوم أميركياً وغربياً، ومرشّح للامتداد نحو أراضيها، هو من بين أولويات جدول أعمالها الأمني – الاستراتيجي، وأساس موضوعي للتقاطع مع دمشق الساعية إلى استعادة وحدة الأراضي السورية. والأكيد هو أن التورّط الأميركي والغربي في النزاع المديد والمكلف في أوكرانيا، وما تمخّض عنه من تداعيات، بينها تعزيز موقع تركيا في مقابل «شركائها» الغربيين، قد خلقا شروطاً مؤاتية لمحاولة شلّ الأداة الرئيسة التي استخدمتها الولايات المتحدة على الساحة السورية، أي ميليشيا «قسد»، التي حرص قائدها مظلوم عبدي على التذكير بأنه «الحليف الأوفى لواشنطن». بطبيعة الحال، لا يزال هناك الكثير من العقبات في طريق التطبيع بين أنقرة ودمشق، والمتّصلة بكيفية التوصّل إلى حلول للقضايا الخلافية بينهما، بدءاً بقضية «قسد»، مروراً بمستقبل الأوضاع في إدلب، وصولاً إلى مسألة عودة اللاجئين السوريين في تركيا. لكن عودة التواصل بين القيادتَين في البلدَين، والمساعدة الروسية، قد تتيحان التوصّل إلى تفاهمات قابلة للتطبيق ميدانياً، وفرْض وقائع لا تستطيع الولايات المتحدة مقاومتها في الظروف الراهنة.
لقد اتّضح، خلال السنوات الماضية، أن الولايات المتحدة تسعى إلى توظيف «الورقة الكردية»، أي النزعة الانفصالية ومَن يمثّلها بين التنظيمات السياسية، ليس ضدّ العراق وسوريا فحسب، بل ضدّ إيران وتركيا أيضاً. فبعد إنشاء الإقليم الكردي في العراق، ودفاع «قسد» ومَن يمثّلها سياسياً عن المشروع الفدرالي في سوريا، يعلن مصطفى هاجري، رئيس المركز التنفيذي في «الحزب الديموقراطي الكردستاني» الإيراني، في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، أن مشروعه هو «إقامة نظام فدرالي في إيران». منذ غزو العراق في 2003، شكّلت الأطروحة الفدرالية الوسيلة المثلى التي تستغلّها الولايات المتحدة لزعزعة الدول الوطنية في الشرق الأوسط وتقسيمها إنْ اقتضت مصالحها ذلك. لكن السياق الدولي والإقليمي المستجد، في ظلّ انحسار النفوذ الأميركي، أصبح يفسح المجال لتلك الدول للتصدّي بفعالية أكبر لمثل هذه المخطّطات والتعاون في ما بينها بما يخدم مصالح جميع شعوبها.