تركيا وجيرانها… بين الأطماع المتجذرة وحسن الجوار المزعوم
د.منذر علي أحمد
تتصدع الرؤوس منذ أشهر بتصريحات المسؤولين الأتراك بإمكانية التقارب مع دمشق، كما ترهق الأعين بمشاهدة صولات أردوغان زعيم مشروع الأخونة المندثر في المنطقة خاصة العاصمة العراقية بغداد، إذ لا تزال الأطماع التركية في دول المنطقة ترى بالعين المجردة، وتحاول أنقرة في كل هذا التعويضَ عن فشل مشاريعها في المنطقة لاسيما في سورية والعراق، وهو ما برز جلياً في عشرية النار التي عصفت في المنطقة وشكلت تركيا عرابها من خلال فتح حدودها لعشرات آلاف الإرهابيين من مختلف دول العالم وإدخالهم إلى سورية بدعم من مخابراتها، وسرعان ما تذرعت لتحقيق أطماعها بمحاربة الإرهابيين من حزب العمال الكردستاني مستبدلة إياهم بإرهابيين آخرين أكثر قرباً من خطها السياسي والإيديولوجي وصولاً إلى المطالبة بما أسمته المنطقة الآمنة على طول حدودها مع سورية، البالغة 911 كيلومتراً وبعمق 45 كيلومتراً وبمساحة تقدر بـ 5 آلاف كيلو متر مربع على الأرض السورية.
ولم يختلف النهج كثيراً بالنسبة لشمال العراق وهناك أنشأت تركيا العشرات من القواعد العسكرية اللاشرعية منتهكة السيادة العراقية، بالتوازي مع هذه الإجراءات يعلن الجيش التركي بشكل متكرّر وبين الحين والآخر تنفيذ عمليات عسكرية عدائية جوية وبرية داخل الأراضي العراقية دون تنسيق مع البلد المعتدى عليه، وهذا ما دفع حكومة بغداد إلى الاحتجاج مراراً ورفع الشكاوي إلى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة دون أن تلقى آذاناً من المجتمع الدولي.
ولم تقف أطماع وانتهاكات تركيا في سورية والعراق عند حدود الأرض والجغرافيا والاعتداء العسكري وانتهاك السيادة، بل تعدتها إلى الاعتداء على الثروات الطبيعية متبعة سياسة الهيمنة على مياه نهري دجلة والفرات والتحكم في حصة سورية والعراق من مياههما ما تسبب في انخفاض شديد لمنسوب المياه في البلدين نتيجة البناء اللانساني للسدود التركية، في الوقت الذي تطالب فيه دمشق وبغداد بتطبيق مبادئ القانون الدولي بشأن تنظيم استغلال المياه على اعتبار أن نهري دجلة والفرات دوليان طبقاً لتعريف الأمم المتحدة الذي يقول إن النهر الدولي هو “المجرى المائي الذي تقع أجزاء منه في دول مختلفة”، ولكن لتركيا العثمانية أفكارها الخاصة باستثمار المياه ومخططات بيعها للدول العربية (التي تبيع النفط الذي يوجد في أراضيها) ولم يكن لديها حرج من حرمان دول الجوار من حقها وحصتها في المياه وفق ما نصت عليه القوانين الدولية.
وإذا كان هناك من لم يقتنع بعد بوجود مشروع تركي هدّام للمنطقة ينسجم بتفاصيله مع المشروع الأمريكي والغربي فعليه فقط النظر بعين البحث إلى المسار التاريخي للعلاقة التركية مع قضية فلسطين كقضية عادلة، فمنذ بداية حكم العثمانيين لفلسطين في القرن السادس عشر تشير كافة الدراسات التاريخية الموثقة إلى أن تلك الفترة شهدت تعاطفاً عثمانياً مبكراً مع اليهود وعودتهم بشكل تدريجي إلى مدينة القدس وصولاً إلى القرن التاسع عشر وفيه بلغت ذروة الهجرة اليهودية من الغرب إلى فلسطين وبتساهل من قبل السلاطين والولاة العثمانيين بناء على مصالح عثمانية مع النفوذ اليهودي الذي بدأ يتعاظم بشكل كبير حتى داخل الدولة العثمانية نفسها من خلال تشكيل مركز قوة يهودي صهيوني متمثلاً بيهود الدونمة الذين استطاعوا مع الوقت تأسيس حزب الاتحاد والترقي المعروف بخلفياته الصهيونية الذي استطاع اختراق الدولة بوصوله إلى رأس السلطة آنذاك.
وحتى لا نغوص في التاريخ كثيراً، نسأل الأسئلة المشروعة التالية: “ماذا عن موقف تركيا من فلسطين في العصر الحديث؟ أقله خلال العقدين الماضيين وصولاً إلى المذبحة الممتدة لأكثر من ستة أشهر، وماذا قدمت تركيا؟ وماذا عن العلاقة التي تجمع تركيا بالعدو الصهيوني؟ وهنا لا نبالغ إذا قلنا إن تركيا هي الدولة الإسلامية الأكثر تعاوناً مع “إسرائيل” من خلال علاقات سياسية واقتصادية واستراتيجية، كل هذه العلاقات لم تستحق غزة من أردوغان أن تتوقف ولو لأيام بينما اكتفى بالتنديد وإطلاق الوعود التي لم تقرن يوماً بالأفعال، حتى أنه لم يسمح للشعب التركي بالتظاهر تنديداً بجرائم غزة وكلنا يتذكر ما حصل في بداية العدوان على غزة عندما قررت حشود المتظاهرين الاعتصام أمام قاعدة “إنجرليك” الأمريكية في ولاية أضنة للمطالبة بطرد القوات الأمريكية في القاعدة، على خلفية الدعم السياسي والعسكري الكبير الذي تقدمه الولايات المتحدة لدولة الاحتلال في عدوانها فما كان من قوات الأمن التركية إلا ان قامت بتفريق المتظاهرين وفض اعتصامهم مستخدمة قنابل الغاز وخراطيم المياه.
إن السياسة التركية باتت مفضوحة ولم تعد تنطلي على شعوب المنطقة، ولعل غزة وأحداثها الأخيرة أكثر ما عرّت الموقف التركي، ولا تبدو أنقرة جادة في طروحاتها وتحركاتها الداعية زوراً إلى بناء علاقات تقوم على المصالح المشتركة مع جيرانها كتلك العلاقة التي تجمعها مع “إسرائيل” بل
كانت ولا تزال تتبع سياسة الهيمنة والتوسع على حساب أراضي الغير، وفي الوقت نفسه يتبع نظامها السياسي الحاكم سياسة المراوغة والخداع والكذب من خلال إطلاق الوعود ونكث الالتزامات والتعهدات.
ولو كانت أنقرة جادة فعلاً في تقاربها مع دول المنطقة فعليها أن تثبت حسن هذه النوايا من خلال إجراءات على الأرض تعبر عن حسن الجوار عبر سحب قواتها العسكرية التي تحتل مساحات واسعة من الأراضي السورية وتدخل سافر في الأراضي العراقية، وأن تنظر إلى مسألة حماية الحدود المشتركة كمسؤولية مشتركة بين البلدان الثلاثة وفق القوانين والمواثيق الدولية وليس عبر سياسة الاحتلال والغزو وإقامة القواعد اللاشرعية ودعم التنظيمات الإرهابية والاعتداء على سيادة الدول واقتطاع أجزاء من أراضيها كما تفعل اليوم.
ولتحركات تركيا الأخيرة بالتزامن مع عودة رئيس الوزراء العراقي من أمريكا ومحاولة الاستفراد في العراق، أهداف لا تقل خبثاً عن تحركاتها طوال السنوات الماضية، فهي تحاول إنقاذ أردوغان بعد تلقيه صفعة مدوية في الانتخابات البلدية الأخيرة وخسارته الولايات الكبرى في تركيا وتمكينه من تحقيق إنجازات أمام جمهوره، بالتوازي مع إنقاذ نتنياهو من الهزيمة المدوية التي لحقت به، وكذلك له أبعاد دولية تتمثل بمحاولة بمحاولة إنقاذ بايدن وحزبه في الانتخابات الأمريكية.
وتتجاوز الأهداف التي يسعى إليها أردوغان من خطواته الأخيره مسألة الإنقاذات السياسية لتصل إلى إخراج العراق من دائرة محور المقاومة ومحاولة قطع الطريق البري بين طهران ودمشق ولبنان عبر توقيع اتفاقيات تشد الخناق على العراق تحت مسميات اقتصادية وعسكرية وأمنية وقطع مسار الحزام والطريق الذي يربط الصين بالبحر المتوسط عن طريق جعل العراق أمريكياً وقطع الطريق على سورية بالضرورة للاستفادة اقتصادياً من عائدات الحزام والطريق، وما ينتج عن ذلك من تحويل الطريق البري التجاري بين أوروبا والخليج ليمر من العراق ومنه إلى تركيا بعيداً عن سورية لزيادة حصارها وإحكام الخناق عليها اقتصادياً.
يفهم محور المقاومة التحركات والمخططات التركية ويقرؤها جيداً، ويعلم أن من يمارس سياسة التعطيش ضد البشر والشجر، ومن يريد أن يمحو أثر الرافدين لا يمكن أن يؤتمن جانبه، فعدو الأمس لن يكون صديق اليوم كونه أثبت على مدار العقود والتجارب السابقة بأنه جار لا يؤتمن جانبه فهو لا يراعي حسن الجوار، أو يأخذه في الحسبان.