بقلم: رفعت البدوي
أسدل العام 2022 الستار على تحولات كبيرة في تحالفات معظم الدول سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، الأمر الذي الحق انتكاسة في أسس نظام الأحادية الأميركية الذي تسيّد العالم منذ انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي.
مما لا شك فيه أن الحرب الروسية الأوكرانية وتقدم اليسار في دول أميركا الجنوبية قد أسهما في تشكيل تلك التحولات التي دفعت بعض الدول الآسيوية والأوروبية إلى إعادة صياغة وتعديل أنظمتها الداخلية بما يتماشى مع المتغيرات الحاصلة، ومع نتائج الحرب الروسية في أوكرانيا، وخاصة بعد الدعوة إلى تأسيس نظام متعدد الأقطاب يرث الهيمنة الأميركية.
تحول دول أميركا الجنوبية نحو اليسار ليس بالجديد، لكن المستجد تحول الصين من قوة اقتصادية ناعمة إلى عسكرية كبرى لمواجهة التهديد الأميركي، وما لبثت دول الاتحاد الأوروبي أن شهدت تحولاً في تحالفاتها والجنوح نحو العسكرة لمواجهة روسيا في الحرب الأوكرانية، بيد أن الأبرز والمفاجئ في التحولات حصل مع إعلان عسكرة اليابان للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بعدما خصصت ما نسبته 3 بالمئة من الناتج الياباني القومي للتسلح، معلنة عن ارتدائها البزة العسكرية وإعادة الحياة إلى مصانع ميتسوبيتشي لتصنيع الطائرات الحربية، إضافة إلى تفعيل برنامج تطوير الصواريخ البعيدة المدى واعلان انضمامها الى تحالف «أوكوس» كعضو أساسي فيه و المكون من أميركا وبريطانيا واستراليا لمواجهة الخطر الصيني.
التحول المهم واللافت في منطقتنا العربية، جاء بعد تأكيد رفض السعودية طلب الرئيس الأميركي جو بايدن بزيادة إنتاج النفط، وذلك لأول مرة منذ الاتفاق الشهير بين الملك السعودي الأسبق عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت، وهو الاتفاق الذي حصل على متن الطراد «يو إس إس كوينسي» في العام 1945، الأمر الذي أسهم في توسيع شقة الخلاف الأميركي السعودي، الذي كان قد بدأ بحرب اليمن مروراً بقرار الكونغرس الأميركي وقف بيع الطائرات الحربية إلى السعودية، إضافة إلى الملف النووي لإيران، والذي لن ينتهي بالنفط.
أما التحول اللافت والأهم الذي حصل في المنطقة، فهو التحول التركي تجاه سورية، وتحديداً نحو الرئيس بشار الأسد، فبعد أن كان الموقف التركي المعلن أن لا تقارب ولا تفاهم مع سورية في ظل حكم الرئيس الأسد، تحول الموقف التركي إلى الإقرار بأن التقارب والتفاهم مع الرئيس الأسد ضرورة، وأن وجوده على رأس الحكم في سورية هو الضمانة للدولة السورية ولوحدة أراضيها.
هذا التحول التركي سبقه اجتماعات سورية تركية أمنية استخبارية بين الجانبين، تلاها تصريحات رسمية عدة صدرت عن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، دعا فيها إلى التقارب مع سورية، مشدداً على استمرار اللقاءات والارتقاء بها إلى مستوى القمة وصولاً إلى التطبيع مع دمشق، واللافت في التصريحات التركية ما صدر عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه، والذي اعترف صراحة بسيادة سورية على كامل أراضيها وأنه تواق للقاء الرئيس الأسد، مؤكداً أن مثل هذا اللقاء سيكون مفيداً لضمان المصالح السورية التركية المشتركة.
يبدو أن أردوغان أراد لفت أنظار سورية نحو تركيا بنسختها الجديدة، بعدما تأكد له تصدع النظام الأحادي، والعجز الأميركي الغربي عن ضمان مصالح تركيا الإستراتيجية، وخصوصاً أن وحدة الأراضي التركية ستظل مهددة، ما استمر الدعم الأميركي لمخطط قيام كيان كردي يقتطع أجزاء من تركيا وسورية والعراق وإيران.
نعترف بأن أردوغان لم يطلب التقارب مع سورية حباً بها، إنما التحولات الحاصلة في العالم القائمة على أسس ترابط المصالح الاقتصادية طبقاً للموقع الجغرافي، فرضت على تركيا الكشف عن نسختها الجديدة في التعاطي مع سورية، نظراً لموقعها الجيوسياسي المهم ومشاركتها ما يقارب 970 كلم من الحدود البرية، الأمر الذي يصعّب على تركيا ضمان أمنها الإستراتيجي ولا يمكنها تحقيق الترابط الاقتصادي من دون التفاهم والتقارب مع سورية الأسد.
القيادة السورية قابلت دعوات أردوغان بالصمت الحذر، كيف لا وهو الذي تآمر عليها وعلى شعبها، لكن بغض النظر عن المؤيدين والمعارضين لحصول اللقاء بين الرئيسين السوري والتركي، نذكّر بما صرح به الرئيس الأسد سابقاً وجواباً على سؤال صحفي قائلاً: «لا مانع من حصول اللقاء إذا كان فيه مصلحة لسورية وشرط عدم التدخل في شؤوننا الداخلية وضمان إنهاء الاحتلال التركي للأراضي السورية».
ان شروط الرئيس الأسد ثابتة ولن تتغير، ما يعني أن أي لقاء بين الرجلين لن يتم قبل ضمان تحقيق شروط الرئيس الأسد كاملة، وهنا يجب الإشارة إلى أن القيادة السورية التي صمدت صموداً أسطورياً وقاومت كل الاغراءات وأدارت الأزمة السورية بميزان الذهب طوال 12 عاماً، ولم تقدم أي تنازل يمس السيادة الوطنية السورية، فإنها اليوم بالتأكيد لن تقدم على أي خطوة من شأنها المساس بالمصلحة العليا لسورية.
أما أولئك المشككون بمواقف أردوغان المعروفة بالمراوغة والكذب فنقول لهم: لكم كل الحق بذلك لكن اطمئنوا لأن في سورية قيادة حكيمة ويجب علينا إيلاؤها كل الثقة وبثبات قاطع، وأنه ما لم تحصل سورية على مطالبها السياسية والعسكرية الضامنة لبسط سيادتها على كامل أراضيها، فلا يمكن إحداث أي خرق في العلاقات مع تركيا.
على الرغم من الاجتماع الثلاثي الذي ضم وزراء الدفاع لكل من سورية وروسيا وتركيا في موسكو ونتائجه الإيجابية، حسبما نقلت صحيفة «الوطن» السورية، بيد أن اللافت هو طلب الجانب السوري منع التقاط أي صورة تجمع وزيري الدفاع السوري والتركي لأن القيادة السورية تعتبر تركيا دولة معتدية ومحتلة للأراضي السورية.
إن حصول اجتماع وزراء الدفاع الثلاثي، هو مؤشر إلى حصول سورية على ضمانات روسية إيرانية بإجبار الجانب التركي على تنفيذ ما اتفق عليه، وإن نجاح الوساطة الروسية للجمع بين وزيري خارجية سورية وتركيا في الشهر الحالي في موسكو، يعني استكمال التحول التركي في الاتجاه الصحيح، والدخول في مرحلة التمهيد للقاء قادم على مستوى القيادتين السورية والتركية وأيضاً في موسكو.
إن الاعتداء الإسرائيلي فجر أمس على محيط العاصمة السورية ومطار دمشق الدولي، والعملية الإرهابية التي طالت عمال شركة النفط في الشمال واحتمال إعادة تحريك الخلايا النائمة، كلها تدخل في إطار الهيستيريا الأميركية الإسرائيلية بسبب إصابتهما بعسر هضم التقارب التركي مع سورية وظهور تركيا بنسختها الجديدة، التي لا تتلاءم مع المشروع الأميركي الصهيوني في سورية.
يبقى أن نشير إلى أن ما شهدناه من تحول تركي تجاه سورية يعتبر خطوة بناءة ومتقدمة على طريق حل الملف التركي الأكثر تعقيداً في الأزمة السورية، لكن التحول السوري المنتظر والأهم، يكمن في الانتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة المواجهة عبر المقاومة الشعبية السورية ضد الوجود العسكري الأميركي في منطقة شبه الجزيرة السورية، لأن مثل هذا التحول السوري يمثل السبيل الوحيد لتحرير الأرض والثروات النفطية والزراعية السورية، وإلا فإن كل الاجتماعات التي حصلت واللقاءات المنتظرة، ستبقى محدودة النتائج والفعالية، وهو الأمر الذي يبقي سورية في حالة من الضعف نتيجة استمرار أميركا في سرقة النفط السوري وممارسة الابتزاز والاستنزاف لسورية ويجعلها عرضة للاستهداف الإسرائيلي الدائم.