تَميّزت الرأسماليات الاستعمارية الغربية، على مدى قرون، بقدرة عالية على توظيف التناقضات الاجتماعية والسياسية، الداخلية منها والخارجية، لتنفيذ مشاريعها ومخطّطاتها. ففي أوج توسّعها الاستعماري، عمدت إلى تصدير الفوائض «البشرية»، من طبقات شعبية معدَمة و/ أو جماعات دينية مضطهدة، لاستيطان المستعمرات، حفاظاً على استقرارها الداخلي، وإنفاذاً لمآربها في السيطرة على بقاع جديدة من جنوب العالم. أيّ مراجعة جدّية لتاريخ الاستعمار الاستيطاني الغربي، بما فيه المشروع الاستيطاني الصهيوني، ستُلحَظ بالضرورة هذه الخاصية الفريدة. المنطق نفسه ينسحب على استغلالها التناقضات الاجتماعية والسياسية في بلدان الجنوب المستعمَرة سابقاً، لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، كما أظهرت القصة، التي باتت معروفة، لكيفية صناعة «الجهاد» الأفغاني ضدّ السوفيات في بداية ثمانينيات القرن الماضي، عندما أشرفت أجهزتها الأمنية، بالتعاون مع أنظمة الخليج وباكستان آنذاك، على تنظيم تدفّق آلاف المتطوّعين المضلَّلين العرب والمسلمين لـ«الجهاد» في بلاد الأفغان. سيناريو مماثل اتُّبع في سوريا خلال العقد الأخير، عندما سمحت الأجهزة الغربية لناشطين مكشوفين من قِبَلها بالذهاب للقتال ضدّ الدولة في هذا البلد.
هي تعيد الكَرّة الآن، ولكن مع أنصار تفوّق العرق الأبيض من أبناء جلدتها، لقتال الروس في أوكرانيا. هي حرب بالوكالة بامتياز. لا يريد الغرب الرسمي، حتى اللحظة على الأقلّ، التورّط في صدام مباشر مع روسيا، مع ما يترتّب على ذلك من احتمال التدحرج نحو حرب كبرى تفضي إلى أهوال لا تقوى أيّ حكومة غربية على احتمالها. لا يغيّر من هذه الحقيقة الخطاب التصعيدي لوزير الدفاع البريطاني، بن والاس، الذي حذّر الرئيس الروسي من الاستخفاف ببريطانيا والغرب، ودعاه إلى عدم اختبارهم. هو ونظراؤه الغربيون أنصتوا جيّداً إلى فلاديمير بوتين عندما أعلن وضع القوات النووية لبلاده في حالة تأهّب. وهم واعون تماماً لطبيعة الاستراتيجية المعادية لروسيا التي يعتمدها «الناتو» منذ ثلاثة عقود، وما تمثّله من تهديد لأمنها القومي، ومدى جدّية القيادة الروسية في التصدّي لها. إضافة إلى ذلك، وعلى رغم التعاطف الكبير بين قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي مع أوكرانيا نتيجة لاستنفار «العصبية البيضاء»، فإن قسماً وازناً من هؤلاء ليس مستعدّاً للموت في سبيل كييف. لا ضير في مثل هذه الحال في تجنيد مَن هم مستعدّون للقتال والموت، من «عقائديين» تائهين، أتباع للتيّارات الفاشية والنازية الجديدة التي تزداد انتشاراً في أوكرانيا، وبلدان أوروبا الشرقية والغربية.
قوّة احتياطية للنُّظم الرأسمالية
تُقدَّم الأحزاب والحركات اليمينية المتطرّفة، بتنويعاتها النيو فاشية والفاشية والنازية الجديدة، والتي نمت شعبيتها باطّراد في بلدان الغرب في العقود الثلاثة التي خلت، على أنها قوى معادية للعولمة النيوليبرالية، وللنخب الحاكمة التي رعتها وأفادت منها. لكنّ التمعّن في خلفيات هذا العداء، على المستوى الإيديولوجي، سيوضح أن دافعه الرئيس هو ما يمكن أن ينجم عن العولمة من تهديد لـ«النقاء» الثقافي والعرقي للغرب الأبيض، نتيجة لموجات الهجرة الكثيفة من بلدان الجنوب المنكوبة بسببه، نحوه. جميع هذه القوى تذوب حنيناً لـ«زمن المستعمرات المبارك»، وهو عنوان أغنية للمطرب الفرنسي العنصري، ميشال ساردو، المحبوب لدى بعض اللبنانيين، عندما كان السيد الأبيض يتحكّم ببلدان الجنوب وخيراتها، ورقاب عبادها. لكنّ فرائصها ترتعد اليوم ممّا تراه نذيراً بـ«استبدال كبير» للسكّان البيض الأصليين بجموع الجائعين القادمين من مناطق الخراب العميم في جنوب المعمورة.
تعتقد الأطراف الغربية أنها وحدها القادرة على الاستفادة من التناقضات السياسية والاجتماعية
هذا على المستوى الإيديولوجي. أمّا على المستوى السياسي، فإن هذه الأحزاب، على رغم ما نسجه بعضها، في مراحل معيّنة، من علاقات مع روسيا أو مع دول وجهات عربية وإسلامية، بحثاً عن التمويل والدعم، في مقابل مواقف لفظية نقدية للسياسة الأميركية، فإنها في لحظات الأزمات الدولية بين الغرب و«الآخرين»، تتحوّل إلى صقور تُزايد في تطرّف مواقفها على بقيّة قوى الطيف السياسي الغربي. انقلاب موقف إريك زيمور، الصحافي الفرنسي اليميني المتطرّف والصهيوني، والمرشّح للانتخابات الرئاسية، يوفّر مثالاً على ذلك، حيث انتقل من تحميل الدول الغربية مسؤولية الأزمة مع روسيا لإصرارها على ضمّ أوكرانيا إلى «الناتو»، إلى داعٍ لمجابهة بوتين لأنه أرسل ضمن قواته إلى هذا البلد «شيشانيين سيصرخون أَلله أكبر عندما يهاجمون الأوكرانيين، ما يجمّد الدم في عروقي»، حسب قوله.
علاوة على ذلك، فإن لجميع الجهات المذكورة صلات تاريخية وثيقة بالأجهزة الغربية، وهي عملت في إطار مخطّطاتها لمكافحة الشيوعية في القرن العشرين، كما انضوى بعضها تحت لواء «استراتيجية التوتر» الدامية التي طُبّقت في إيطاليا مثلاً خلال السبعينيات، وسبق لـ«الأخبار» أن تناولتها في 19/08/2021. ستنجح الأجهزة الغربية، إذاً، بسهولة فائقة في الغَرف من صفوف أعضائها وأنصارها المغلّفين والمؤدلجين لضخّهم نحو الجبهة الأوكرانية مع «العدو الروسي»، ذوداً عن حياض الغرب الأبيض.
لعب بالنار
تعتقد الأطراف الغربية أنها وحدها القادرة على الاستفادة من التناقضات السياسية والاجتماعية في بلدانها وفي العالم خدمة لمصالحها. هي نسيت، أو تتناسى، أن استراتيجية الاحتواء التي اعتمدتها ضدّ الاتحاد السوفياتي في أواخر الأربعينيات، كانت من بين المحفِّزات الأساسية للأخير على الانفتاح على حركات التحرّر الوطني في «العالم الثالث» ومساندتها، للخروج أوّلاً من التطويق الذي تعرّض له. هو متّهم أيضاً بتقديم دعم لبعض حركات العنف الثوري في داخل بلدان الغرب في السبعينيات. المشهد السياسي العالمي يزخر بالتناقضات بين الغرب والأنظمة والحركات المناهضة لهيمنته، وجبهة الغرب الداخلية حبلى هي الأخرى بانفجارات اجتماعية وسياسية، قد يتّخذ بعضها حتى طابعاً قومياً انفصالياً.
المسعى لتحويل النزاع في أوكرانيا إلى حرب استنزاف بالوكالة ضدّ روسيا، سيُفضي إلى تسعير المواجهة الاستراتيجية مع الأخيرة، التي لن تتردّد، ومعها الصين المستهدَفة بدورها من قِبَل التحالف الغربي، في توظيف التناقضات المشار إليها ضدّ الغربيين. إضافة إلى كلّ ما تَقدّم، فإن اللجوء إلى جماعات متطرّفة قابلة بطبيعتها للاختراق هو لعب بالنار. من اللافت أن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حذّر من وقوع الأسلحة النوعية المرسَلة من قِبَل الغربيين إلى أوكرانيا في أيدي إرهابيين. كثيراً ما يؤدي اللعب بالنار إلى حرائق يصعب إطفاؤها. كان هذا أحد الاستنتاجات المفترضة لعمليات 11 أيلول 2001.