كتب ابراهيم الأمين في “الأخبار”:
السؤال الأكثر رواجاً حول احتمال حصول حرب كبرى مع العدو يرتبط بشكل بديهي بما فعله العدو في غزة. وتتقاسم السؤال أكثرية تطرحه بصيغة: هل ستشن إسرائيل حرباً على لبنان؟ وأقلية تسأل: هل سيجرّ حزب الله العدو الى حرب شاملة مع لبنان؟ لكن، في الحالتين، لا تبدو آلية القياس مستقيمة عند الذين – مع الأسف – لا يفقهون ما يجري إلا ممّا يطرح في وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض التصريحات الرنانة من صيّادي الأخبار الزائفة، وهم كثر، في لبنان وخارجه، كما هي حال صحيفة «تلغراف» البريطانية التي لم يسعَ أحد إلى تقصّي وضعها كشركة أولاً، وكصحيفة ثانياً، إذ إنها في طريقها الى الإفلاس، وتمتنع الحكومة البريطانية، حتى الآن، لأسباب قانونية، عن منح الموافقة على بيعها لحكومة أبو ظبي. ووضع الصحيفة مزرٍ الى درجة أن عناصر صحافية جيدة تركتها، فيما أوقفت العمل مع شبكة من المراسلين.بالعودة الى سؤال الحرب، قد يكون مفيداً التذكير بالآتي:
أولاً، إن المقاومة في لبنان هي من بدأ النار، وأعلنت بوضوح منذ اليوم الأول أنها فتحت جبهة إسناد للتخفيف عن غزة وتعقيد مهمة جيش الاحتلال فيها. ولدى المقاومة في لبنان وفلسطين عشرات الشواهد على جدوى هذا الخيار.
ثانياً، إن العدو خضع لقرار المقاومة، ولو أنه ارتكب أخطاء كثيرة بسبب حالة الضياع التي سادت مؤسساته إثر عملية 7 أكتوبر، ما دفع حكومة العدو إلى اتخاذ قرارات كثيرة لا تصبّ في خدمة برنامجها، ومنها قرار إخلاء المستوطنات في الشمال.
ثالثاً، مع تصاعد وتيرة العمليات في الجبهة اللبنانية، حاول العدو إظهار «العين الحمرا» عبر توجيه ضربات مؤلمة، لكن سرعان ما ردّت عليه المقاومة بما جعله يعود إلى «الانضباط». وليس عيباً القول إن جيش الاحتلال «منضبط الى حد كبير» في نشاطه العسكري في لبنان، وخاضع تماماً للقواعد التي رسمتها المقاومة منذ اليوم الأول.
رابعاً، صحيح أن في إسرائيل أصواتاً، داخل الجيش والمؤسسة الأمنية وبين القيادات السياسية والمستوطنين، تطالب بشن حملة عسكرية قاسية ضد حزب الله تؤدي إلى نتائج طويلة الأمد، ما يضمن عودة مستقرة لمستوطني الشمال. لكن، في المقابل، هناك أصوات وازنة في مؤسسات القرار، تحذّر من أي خطوة غير محسوبة، لأن من يريد الدخول في حرب كبيرة مع لبنان عليه الاستعداد لجبهة لا تشبه جبهة غزة أبداً.
خامساً، لم تقل المقاومة في لبنان يوماً إنها تريد حرباً واسعة، ولا تخجل من الإعلان عن ذلك، ولا تهتم لتفسيرات البعض بأن هذا موقف ينمّ عن ضعف، بل هي تقصد ما تقول. فعندما اندلعت الحرب على غزة، حصل نقاش كبير داخل قيادة المقاومة في لبنان، وعلى مستوى قيادة محور المقاومة، وخصوصاً مع حركتَي حماس والجهاد الإسلامي، واتفق الجميع على أن خيار الحرب الشاملة لن يفيد في تلك اللحظة. وهذا التقييم لا يزال سارياً. ولأن المقاومة لا تريد الحرب، فإنها تسعى بكل الوسائل لمنع حدوثها، بما في ذلك تصعيد الخطاب السياسي والتحذيرات العملانية، وتنفيذ بعض العمليات للفت انتباه العدو إلى أن الدخول في حرب كبيرة له كلفته الباهظة.
الإنذارات اليومية للمقاومة هدفها، مرة جديدة، منع العدو من الاقتراب من حافة الحرب، والسؤال الفعلي حول الحرب موجود عند الأميركيين قبل الإسرائيليين
سادساً، الولايات المتحدة التي تتحمل مسؤولية وعبء ما قامت به إسرائيل في غزة، تعرف جيداً واقع جيش الاحتلال اليوم، وموجودات مخازنه من ذخيرة وأسلحة، كما تدرك جيداً حجم الإخفاقات التي واجهها في غزة. وهي تعرف أيضاً أن المقاومة في القطاع لم تُسحق، وأن كل تصوّر لليوم التالي سيتضمن، علناً أو سراً، آلية لتفاهم ما مع المقاومة في فلسطين. لذلك، تفهم واشنطن أن كلفة أي حرب على لبنان ستكون باهظة، وأكبر بعشرات الأضعاف من كلفة الحرب على غزة. وحتى على مستوى الرأي العام العالمي، نقل ديبلوماسيون عرب عن مسؤول أميركي قوله إن قدرة اللبنانيين على خلق واقع ضاغط على إسرائيل في الغرب أقوى بكثير من قدرة الفلسطينيين، وستواجه إسرائيل حالة غضب كبيرة إذا ارتكبت جرائم جديدة في لبنان.
والى جانب كل ما سبق، فإن قواعد الحرب تختلف كثيراً بين لبنان وغزة. ما قام به العدو في القطاع، انطلق من نزعة انتقامية معطوفة على ردة فعل على عملية طوفان الأقصى، وكان العدو وكل الذين وقفوا الى جانبه يرفضون مجرد طرح السؤال عن هدف الحرب، وهو ما جعل أحمق كبنيامين نتنياهو يرفع من مستوى توقعاته وتمنياته. لكن الوضع مع لبنان مختلف جداً، إذ إن السؤال عن هدف الحرب، وعن اليوم التالي لها، يتقدم النقاش، وليست لدى العدو إجابة عن سؤال أساسي: ماذا تريد إسرائيل من الحرب على لبنان: سحق حزب الله، أم إضعافه ودفعه الى الاستسلام والقبول بخطة أمنية جديدة على طول الحدود، أم العودة إلى إقامة شريط أمني جديد داخل الأراضي اللبنانية، أو تأليب الناس على المقاومة من خلال ضرب ما تبقى من بنى تحتية للدولة اللبنانية؟
واضح من كل النقاشات التي تتسرب عن محادثات الأميركيين وبعض الغربيين مع العدو، أن لا أجوبة واضحة لدى إسرائيل. فلا هي قادرة على رفع شعار سحق حزب الله، ولا هي غافلة عن استحالة دفعه إلى الاستسلام. وكما تعرف أن كلفة المسّ بالبنى التحتية المدنية ستكون عالية جداً عليها، فإنها ليست في حالة جهوزية عسكرية واستخبارية وعملانية لشن حرب برية واسعة، وفوق ذلك، تدرك أن الدعم الذي تحتاج إليه من الآخرين يصعب توفيره. فحتى الولايات المتحدة اضطرّت إلى التصريح، على لسان العسكريين فيها، بأنها غير قادرة على توفير مظلّة حماية كاملة. وفي الوقت نفسه، يعرف العدو أن فكرة جرّ الولايات المتحدة الى الدخول مباشرة في الحرب، تحتاج الى معادلات جديدة داخل أميركا وفي العالم.
عملياً، ليس هناك ما يردع العدو من ارتكاب أخطاء تقود الى تدحرج الأمور صوب مواجهة شاملة. لكن ما شهدته الأسابيع الماضية لا يوحي بأن الأمور فالتة من عقالها الى هذا الحدّ. مع ذلك، فإن رسائل المقاومة الى العدو وحلفائه باتت أكثر من كافية لإشعاره بأن الاستعداد للحرب ليس شعاراً أو قراراً إدارياً، بل هو خطة جاهزة وقابلة للتفعيل متى تطلّب الأمر.