بيَان «إفتراضي» من عَون وسَلام إلى المجتمَعَين العربي والدولي…
كتب عبد الغني طليس في “اللواء”:
يا أبناء البشرية جمعاء،
إن بلدنا يخضع اليوم للخطر الإسرائيلي الذي يستعيد دَورتَه الدموية وبدون أقنعةٍ تتلطّى بحرب إسناد غزّة، ولا بغيرها. فلبنان الذي وافق على القرار ١٧٠١ والتزمَ به جديّاً وباشر تنفيذ مندرجاته على جنوب الليطاني بإشراف الأميركي والفرنسي لمَنع السلاح اللبناني غير الشرعي، تعود إسرائيل اليوم إلى عاداتها العدوانية بضرب مدنه وقراه وضاحية بيروت الجنوبية، بذريعة صواريخ بدائية انطلقت من أرضه، متهمةً المقاومة بها، وفي التحقيقات تبيّن أنّها عناصر «منضبطة» بالعمالة لها، فعلَت ذلك لتضرب إسرائيل الضاحية كردّ مُخَطّط له. ثم تكررت الضربة بلا ذرائع. فواضح تماما أنها الطريقة التقليدية التي كانت تنفّذ عبرها إسرائيل سياساتها الحربية تجاه لبنان، وما تزال، وليس غريباً ذلك…
يا أبناء البشرية جمعاء،
يؤسفُنا القول أن كل أقوالكم ووعودكم التي نحملها على محمل الصدق لا تصل إلى آذان القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل، وإذا وصلَت لا تُحترَم، بل يستمر الإرهاب علناً في كل مكان تطاله آلة الجحيم الإسرائيلي، وحجّتها اللفظية أن أهدافَها عسكرية تابعة لحزب الله، والواقع يدل على أنها نوايا مُبيّتة، تتصيد الناس الآمنين وأرزاقهم. وقد بلغ بنا الأمر في لبنان، رئاسةَ جمهوريةٍ وحكومةً ومجلساً نيابياً وشعباً، مرحلةً لا بد من أن نحذّركم من عواقبها:
نريد بناء دولتنا، وإجراء الخطوات التي تَنهضُ ببلدنا اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وأوّلها التحرّر من الإملاءات غير الطبيعية في السياسة الداخلية، وثانيها صيانة شعبنا من كل المخاطر. غير أنّ ولَع إسرائيل بالحروب ودَلَعها على كل دوَل العالَم شرقاً وغرباً بهدف إجبارنا على التأقلم معها ينسف أي ثقة نتمنّاها بيننا وبين مواطنينا، ويهدم أي محاولة لمساعدتنا منكم. وإنّ التركيز على «التطبيع» في توجهاتكم نحونا، دونه أرض لنا محتلّة، وتهديدات ممهورة بالدم. وإن التخلّي عن السلاح لا يتم إلّا نتيجة الشعور بالأمان، ونزعَ السلاح لدى المضروب بالنار أمرٌ فادحٌ لا يتحقق. فضلاً عن أن استعجالكم بهما علينا لا يُفَسَّر بغير الاستثمار المستحيل بجرح عميق ينبغي أن يَشفى أولاً لا أن تُضاف إليه جراح أخرى توغِل في تعميقه.
نسمع أحياناً عن «استنكاركم خروقات» إسرائيل لشعبنا ودولتنا، على الأقل منذ وقف النار الأخير، لكنْ يتبين لكم ولنا أنه غير كافٍ مطلقاً ولا يجوز لكم ولنا البقاء في هذه الخانة. فالأزمات الداخلية التي تعيشها قيادة العدو السياسية والعسكرية تأخذ نتنياهو نحو الهرب منها إلى الاعتداء علينا، بما يكشف بصراحة تامة أن «حَرْبه» البانوراميّة على عدة جبهات هدفها تخفيف الضغط الداخلي عنه، وسَحب شعبه إلى «ملعب» آخر يعرف أنه مرغوب ومؤيَّد عنده، ألَا وهو الحرب. أما نحن فلا بد لنا من البحث عن وسيلة أخرى لردع هذا العدوّ وإيقافه عند حدّ، فبلدنا مفتوح على خيارات مأساوية من كل الجهات، وقسم كبير من شعبنا (لا يشجع المقاومة!) بدَأ يتأكد أن إسرائيل لن تتخلّى عن احتلالها وجرائمها، إلّا بجدّيتكم في ردعها، أو بما يعيدها مرغمة إلى الالتزام ببعض قواعد التهدئة التي سرت قرابةَ عشرين عاماً. والخيار الأخير تفكّكت شروطه اليوم.
لا يمكننا كمسؤولين إلّا أن نكون مسؤولين حقاً عن دولتنا وشعبنا كله، لا أن نتحوّل إلى عدّاد يُحصي ضربات إسرائيل وأعداد الشهداء والجرحى.
وإنّ ضَغْطَنا على شعبنا بالتحمّل لإمرار مرحلة خطرة، ودعوتَه إلى الصبر أكثر فأكثر، ومَنْعَه من حقه الطبيعي الذي حذفناه من بياننا الوزاري إكراماً لدوَلِكُم، تبيّنَ أنه عند إسرائيل سلوكٌ يساعدها على التفلّت أضعافاً مضاعَفة من القرارات والقوانين الدولة، ويضعنا في مصاف شهود الزور على ما يجري.
لم تكن قرارات المقاوَمة في لبنان يوماً نابعة من الدولة اللبنانية، ولا كنا أركاناً فيها، ولا كنا موافقين عليها، ولم نؤمن بجدواها، لأننا نؤمن بضرورة أن يعمّ مناطق النزاع في العالَم، وجهُ السلام، غير أن إيماننا هذا يصطدمُ دائماً بنزوع إسرائيل المحكومِين بها نحن جغرافياً، إلى التعدّي، لفرض الهيمنة الكاملة والسّلْبَطة على جوارها، وأبعد من الجوار. وحالياً يعيش بلدنا هذه الحالة غير المقبولة قانوناً إنسانياً، ولا شَرعاً دولياً. ونحنُ متوجّسون من أن قسماً من شعبنا الذي يعاني مراراً وتكراراً من جرائم إسرائيل فيه، لن يقعد عن نصرةِ نفسه، بحُكم الطبيعة البشرية النابذة للعدوان، ناهيك عن مادة مثالية (المادة ٥١) من مواد من الأمم المتحدة التي تقول صراحة إن عجز أي دولة عن الدفاع عن نفسِها، حقٌّ لشعبها أن يقاوم الإحتلال بما يملك.. مهما وجدَ من المحاذير حولَهُ، ومن العوائق في السلطة، ومن غيرها، ومن إسرائيل والعالَم المتفرّج والمرحّب. وهذا قد يجبره شئنا أم أبَينا، على العودة، مرةً جديدةً، ولو فوقَ إرادتنا كمسؤولين، وإرادتكم العربية والدولية، إلى الدفاع والمقاوَمة عن أرضه وأرزاقه وكرامته بما ملَك. وقد عرَفنا تلك التجربة الشعبية (قبل حزب الله) وعشناها لسنوات قبل التحرير عام ٢٠٠٠، حيث تخطّى مقاوِمو الإحتلال الإسرائيلي كل الخطوط التي كانت ترسمها الحكومات اللبنانية المتعاقبة، وكل الآراء المعاكسة لهم، في السياسة والعسكر، وفَوقها موازين الردع وفرضوا على العدوّ انسحاباً كاملاً وغير مشروط، لم يحصل مثله في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. ونحن لا نهدّد بقدر ما نذكّر…
فإلى راسمي السياسات والعسكريات في العالَم ندعوكم إلى الإسهام في تحقيق أهدافنا بالعيش في لبنان بسلام وطنيّ، وقد كان اندفاعُكم لانتخاب رئيس جديد للجمهورية واختيار رئيس للحكومة وتشكيلها مثار إعجابنا بقدرتكم، إلّا أن اعتداءات إسرائيل اليومية وعدم قدرتنا وقدرتكم في السياسة على أن نفعل شيئاً ملموساً يكبحُها، يمكن أن يُوصِلَنا إلى الحائط المسدود.
ويتعيّن ألا تغرّكم دعوات بعض القوى السياسية الداخلية إلى صَدْم المقاومة بالجيش اللبناني، ولو أدّى ذلك إلى «تقسيمه» (حرفياً!) فهي دعوات اليائسين من تحقيق أوزان سياسية أكبر من أوزانهم الحقيقية، وتمهيدٌ لسَلّ سلاحهم المخبّأ. ناهيك عن أن الجيش اللبناني الذي حافظنا عليه برموش العيون وجَهِدنا لتثبيته، لم يُنشَأ أو يُعدّ للدخول في هذه التجربة الانتحارية، بل لمواجهة العدوّ الذي يعرفُه أكثر مما يعرفه أحد.
هي كلمتنا إليكم، ولن نرضى بأن نبقى نناديكم كمن ينادي في وديان موحشة فلا يرد إلّا صدى صوتنا. ومَن يطلب منّا عملاً ديبلوماسياً «حضارياً» بدلَ المقاومة، عليه ألا يجرّدنا من المنطق والصّدقية وتقديم البرهان المُقْنِع لا أمام المقاومة فقط بل أمام التاريخ. فمن خلال سكوتكم وغَمْغَمتكم وإحناء الرأس لإسرائيل، وتأييدها في أفاعيلها تدفعون بمن حُجبَ عنه مال الإعمار، وشروطُ القيامة من تحت الركام، إلى التفجر في مكان ما، في وجوه الجميع، ولا يعرف غير الله كيف ومتى؟
ليست إسرائيل خافية على أحد في كل العالَم. ولبنان ليس خافياً على أحد. وإن محاولات «ترويض» شعبنا على القبول «بقدَرِه» الدموي والخَرَابيّ اليوميّ الجديد أدهَى مما تتصوّرون بمضاعفاته علينا وعليكم وعلى لبنان، وأكبر من طاقتنا على التحمّل. نحن هنا، كدولة، لا ندقّ طبول الحرب لكنْ لن نوقّع على هزيمة انتمائنا إلى أرض وإنسان ووطن.