ما ورد في البيان المشترك الصادر عن القمّة الخليجية – الصينية، من «دعم لمبادرة ومساعي دولة الإمارات للتوصّل إلى حلّ تفاوضي وسلمي لقضية الجزر الثلاث»، التي تعتبرها إيران جزءاً من أراضيها، ومن دعوة للأخيرة إلى «الانخراط بشكل جدّي في المفاوضات للعودة إلى الاتفاق النووي»، لقي مواقف رسمية شاجبة، وجملة من التحليلات والتأويلات، حيال ما بدا أنه انحياز صيني إلى الدول الخليجية في مقابل إيران. دان المتحدّث الرسمي باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، ما اعتبره «اتّهامات باطلة» تضمّنها البيان، واستدعت هذه الوزارة السفير الصيني في طهران لإبلاغه استياءها الشديد منه. أمّا التحليلات والتأويلات، فقد تمحور معظمها، بخاصة تلك الصادرة عن صحف خليجية أو إيرانية محسوبة على الإصلاحيين، حول ما كشفتْه من أولوية صينية لتطوير الشراكة المتعدّدة الأبعاد مع البُلدان الخليجية، ولو على حساب الشراكة مع إيران، وحول ما سيترتّب على هذا الأمر من تداعيات على مستقبل الأخيرة. صحيفة «آرمان إمروز» مثلاً، الإيرانية الإصلاحية، التي تعكس آراء قطاع معتبَر من التيار الإصلاحي المعارض لتعزيز العلاقات مع الصين والقوى الآسيوية، بدلاً من التوصّل إلى تفاهمات و«فكّ اشتباك» مع الغرب، كتبت في صفحتها الأولى بأن «استقلال تايوان حق قانوني».
في كلّ الأحوال، لن تسمح ردود الفعل في فهم الخلفيات الحقيقية لهذا الموقف الصيني، الذي لم ينجم بالتأكيد عن «هفوة» شبيهة بـ«هفوات» جو بايدن المتكرّرة في الآونة الأخيرة، وما يشي به من أولويات جدول أعمال سياسة بكين في منطقتنا. هي حرصت، خلال العقود الماضية، على تنمية شراكات متعاظمة مع مختلف اللاعبين في الإقليم، بمعزل عن صراعاتهم، وقام بعض منظّري سياستها الخارجية بإطلاق تسمية «المثلّث الاستراتيجي» على أطراف معادية لبعضها البعض، كإيران والسعودية والكيان الصهيوني، للدلالة على الأهمية المتوازية بنظر الصين لصلاتها معها. كان هؤلاء المنظّرون يؤكدون أن أسوأ الكوابيس بالنسبة لصنّاع القرار في بلادهم، هو اضطرارهم يوماً ما إلى الاختيار بين أحد أضلاع المثلّث العتيد! سادت هذه المقاربة قبل احتدام المواجهة الأميركية – الصينية في السنوات الأخيرة، وما تَرافق معها، وبسببها أيضاً، من تعزيز للعلاقات الصينية – الإيرانية، وصولاً إلى «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» بين البلدَين، والتي جرى التوقيع عليها في 27 آذار 2021. وبما أن الدوافع الجيوسياسية والجيو-اقتصادية بالنسبة للبلدَين للمضيّ بمِثل تلك الشراكة باتت أكثر حيوية اليوم مقارنة بالماضي، وبحُكم المجابهة بين كلّ منهما والولايات المتحدة، يصبح السؤال الفعلي هو عن الأسباب الظرفية، لا البنيوية، التي حدت ببكين للسعي لـ«استرضاء» الدول الخليجية، عبر تضمين بيانها المشترك الأخير معها المواقف المذكورة سابقاً.
الاستراتيجية الأميركية لاحتواء «الصعود الصيني» لا ترتكز فقط على الانتشار العسكري في جوارها، وإقامة الأحلاف الإقليمية المناوئة لها. فعلى عكس الاتحاد السوفياتي، هي ليست قوة سياسية وعسكرية تتزعّم معسكراً موحّداً على قاعدة الأيديولوجيا، بل هي راهناً قطب اقتصادي وتجاري وتكنولوجي، إضافة إلى قدراتها العسكرية المتنامية، يمتدّ نفوذه إلى أنحاء الكوكب. التحدّي الرئيس أمام استراتيجية الاحتواء الراهنة، هو النجاح في الحدّ من هذا النفوذ، وحمْل بقيّة بُلدان العالم على الشروع في تفكيك شبكات المصالح الضخمة التي باتت تجمعها ببكين. لقد استيقظت واشنطن متأخّرة في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بعد سنين انغماسها في «الحرب على الإرهاب»، وأدركت حجم «التسلّل» الصيني في مختلف البقاع، بما فيها تلك المصنَّفة «منطقة مصالح وطنية حيوية» كالخليج، أو «حديقة خلفية» كأميركا الوسطى أو اللاتينية.
يعتقد صنّاع القرار في بكين أن الفارق الجوهري بين سياستهم والسياسة الأميركية، هو أن مشاريع طريق الحرير الكبرى تحتاج إلى الاستقرار
ad
تزايُد الوزن الاقتصادي والتجاري، وتالياً السياسي، للصين كمنافس على الصعيد الدولي، أي في إطار السوق الرأسمالية العالمية، هو الذي حدا بالولايات المتحدة، الإمبراطورية العسكرية أولاً، إلى اعتماد سياسة الحصار العسكري ضدّها، وإدخالها في سباق للتسلّح، والعمل على زعزعة استقرارها عبر رعاية حركات انفصالية في داخلها، كما في التيبت وسين كيانغ، أو دعم «ثورات ملوّنة» كما في هونغ كونغ. لكنها جهدت أيضاً في محاولاتها لثني دول كثيرة عن الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، «البديل الصيني المستقبلي عن صندوق النقد والبنك الدوليين» في عُرفها، ولم تنجح في ذلك. فقد انضمّت دول كالسعودية ومصر، وأيضاً دول أوروبية، كألمانيا وإيطاليا وفرنسا، إليه عند تأسيسه في 2015. هي قامت بالأمر عينه لمنع الانتشار السريع لشبكات الجيل الـ5 (5G) التي تسيطر عليها الصين وفقاً لها. المنطق إيّاه يفسّر تحذيراتها المستمرّة من المخاطر الأمنية المترتّبة على الاستثمارات الصينية الضخمة في ميدان البنى التحتية «الحسّاسة» والموانئ والمطارات والصناعات الاستراتيجية، وإبرام العقود مع بكين في ميدان التسلّح بطبيعة الحال.
يوفّر التدهور المستمرّ في العلاقات الخليجية – الأميركية بشكل عام، والسعودية – الأميركية بشكل خاص، فرصة استراتيجية لبكين لإنجاز نقلة نوعية في تعاونها الاقتصادي والتجاري، وكذلك في ميدان الطاقة، مع هذه البلدان، وتوثيق صلاتها السياسية معها. وما يشجّع الصين على اتّباع تلك المقاربة، هو ما ظهر من اتّساع في هامش استقلالية البُلدان المشار إليها على خلفية الأزمة الأوكرانية، ورفضها الانصياع للضغوط الأميركية لفرض عقوبات على روسيا أو زيادة إنتاج النفط لتخفيض أسعاره. من منظور بكين، فإن الزيارة الأخيرة لشي جين بينغ للسعودية تمثّل اختراقاً كبيراً في منطقة كانت فضاءً حصرياً للنفوذ الأميركي، ولم تَعد هكذا. لا يعني ما تَقدّم البتّة إعادة نظر في الشراكة الاستراتيجية مع إيران، الدولة المستقلّة المناهِضة للهيمنة الأميركية، والتي أملتها مصالح كلّ من البلدَين، على الصعد الاقتصادية والاستراتيجية، وفي سياق استعار الهجمة الأميركية عليهما. بكين مقتنعة بأنها حاجة موضوعية إلى طهران، والعكس صحيح. لكن منطق اقتناص الفرص، بالمفهوم الرأسمالي للكلمة، هو الذي قاد الأولى إلى تقديم «محفّزات» لبلدان اعتادت على منح ولائها لواشنطن في مقابل الحماية، غير أنها لم تَعد مقتنعة بصوابية مِثل هكذا توجّهات في العصر الحالي، الذي تُعدّ سمته الأبرز تراجع القدرة الأميركية على الهيمنة والتحكّم والحماية. ويعتقد صنّاع القرار في بكين أن الفارق الجوهري بين سياستهم والسياسة الأميركية، هو أن مشاريع طريق الحرير الكبرى تحتاج إلى الاستقرار، وتشجّع عليه، بينما تسعى الإمبراطورية المنحدرة إلى إشعال الحرائق وزعزعة الاستقرار، ما قد يشجّع في المستقبل على دور وسيط للصين في البحث عن حلول سياسية للأزمات المستفحلة في المنطقة.