بالتصنيف الجديد

بعد انتظار دام أكثر من أربع سنوات تلت #الانهيار المالي والنقدي الذي دمّر حياة ومستقبل الكثيرين، خرج للمرة الأولى نوع جديد من الكلام عن مسؤول يعتبر المعني الأول بهذا الموضوع وهو الحاكم بالإنابة للمصرف المركزي وسيم #منصوري. وأهمية كلام منصوري ليست نابعة من موقعه المركزي في حلّ الأزمة وحسب بل من كون الكلام الأول من نوعه الذي لا يُصنّف في إطار التجاذب العقيم السائد منذ خريف العام 2019.

التجاذب المذكور كان عقيماً لأنه أدى إلى استحالة إقرار الحلول أو الإجراءات التشريعية الأولية التي كانت ضرورية وبديهية للحدّ من آثار الأزمة والتأسيس للخروج منها بأقل الأضرار، وفي طليعتها إقرار “الكابيتال كونترول”، والعقم نتج أيضاً عن الانقسام الحاد في المواقف ولأنه انطوى على سرديّتين متناقضتين اشتركتا في تعطيل كل إمكانية أو فرصة للقرار العاقل والعادل. وكل واحدة من هاتين السرديّتين ألقت الملامة والمسؤولية في التسبب بالأزمة على طرف واحد من أطراف الأزمة دون الآخر، أي الدولة أو القطاع المصرفي، وكلاهما اتفق علناً أو ضمناً على تحميل المصرف المركزي عن حق مسؤولية يجب أن يتحملها، وعلى تحميل المودعين عن غير حق جزءاً كبيراً من المسؤولية وبالتالي من الخسائر.

إنها المرة الأولى التي يخرج فيها حديثُ مسؤول عن اللغة والمفردات التي سادت منذ بداية الأزمة والتي تراوحت بين خطابين نقيضين أيضاً، الأول يتحدث عن الودائع بلغة التقديس وهو جميل ولكنه مجرّد من أية مدلولات عمليّة، أو يتناولها من منطلق التأكيد على وجودها أي بأنها موجودة لدى المصارف، والمقصود بهذا أنها موجودة كالتزام قانوني لا يمكن التفلّت منه ويجب إيفاؤه مهما كانت العوامل الحائلة عملياً دون ذلك، وهذا ما كان يردده الحاكم رياض سلامة حتى اللحظة الأخيرة من عهده، ولكنه يفتقر إلى المخارج العملية التي تؤدي إلى تأمين الظروف الموضوعية لتحقيق هذا الالتزام القانوني والإيفاء به. أما النقيض الثاني فهو يشمل الخطاب الذي بشّر على مدى السنوات الماضية بأن الودائع السابقة للأزمة تبخّرت والبحث منصبّ على تحديد نِسَب تبخُّرها والفتات الذي يمكن أن يتكرّم المسؤولون عن الأزمة بتأمينها لبعض المودعين من أصل أموالهم.

الحاكم بالإنابة تحدّث من منطلق جديد مختلف وهو تصنيف الودائع بين مشروعة وغير مشروعة، وبين فوائد عادلة وأخرى فاحشة. وهذا ينسف التصنيفات السائدة في السرديات السابقة، والتي تقوم على تصنيف الودائع بين قديمة وجديدة، أو بين ودائع كبيرة أو صغيرة. أما التصنيف الجديد للحاكم فانطلق من منطلق قانوني من شأنه تحقيق أكثر من هدف، ولا يقف عند تعزيز الإمكانية العملية للإفراج عن الودائع المشروعة بل يفتح المجال للمحاسبة عن مصادر الكثير من الأموال المودعة في المصارف والتي توجد شكوك حول مشروعيتها، ومن شأن إخراجها من حيّز الودائع المحميّة والواجبة الأداء، إراحة السواد الأعظم من المودعين المظلومين وتحقيق المحاسبة التلقائية بحق المودعين أصحاب الودائع المشبوهة.

ربما كان الانتظار المؤلم الذي عاشه المودعون هذه السنوات مثمراً في دفع المعنيين إلى الانتقال إلى حيز الواقعية بعد ثبوت استحالة الإجهاز على ما تبقى من حقوق، وبعد العجز عن إقرار أي من التشريعات التي هدفت إلى تصفية الودائع بعد تصنيفها بأنها قديمة. هذه الواقعية البادية من الحديث الأخير للحاكم بالإنابة يجب أن تُبنى عليها المخارج العادلة والمنصفة وأن يبدأ تحرير الودائع المشروعة، وإن كان ذلك بصورة تدريجية تتناسب مع أوضاع كل من المصارف، وبذلك تعود الحياة إلى القطاع المصرفي وإلى الاقتصاد والمجتمع وفق هذه القاعدة.

Exit mobile version