كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
إذا كانت حرب سوريا الحالية ستعيد رسم الشرق الأوسط بكامله، فإنّ معركة حمص أساسية في إعادة رسم سوريا. وستؤدي مجريات الأحداث في هذه المحافظة، بموقعها الاستراتيجي ورمزياتها، إلى التأثير بقوة على مستقبل الوضع في جوار سوريا، خصوصاً في لبنان.
بات مؤكّداً أنّ هناك قراراً اتخذته قوى دولية وإقليمية يقضي بإحداث تغيير جذري في سوريا، كجزء من التحولات الكبرى التي دخلها الشرق الأوسط بنحو متسارع، منذ انفجار الحرب على مداها في لبنان، قبل نحو 3 أشهر. ويؤشر حال الهدوء والتباطؤ واللامبالاة في سلوك عدد من القوى المعنية بالوضع السوري إلى أنّ هذه القوى تدرك تماماً الاتجاه الذي تسلكه الحرب وتتفهم نتائجها مسبقاً.
إلى حدّ بعيد، يبدو الرئيس السوري بشار الأسد وحيداً في ساحة القتال، ومفتقداً أي دعم حقيقي من حليفيه التقليديين: إيران وروسيا، فيما الأتراك يطلقون أيدي حلفائهم. وإذ أعلنت طهران أمس أنّها ستدفع بتعزيزات عسكرية عاجلة إلى قوات حليفها الأسد، لعلها تتجنّب الخطر الذي يقرع أبواب دمشق، فإنّ هذه التعزيزات ستأتي متأخّرة جداً، سواء من جانب «الحرس الثوري» أو من جانب «حزب الله» أو أي فصيل آخر. وفي أي حال، هذه التعزيزات ستكون مكشوفة، وسيتمّ استهدافها بضربات إسرائيلية، على الأرجح.
واللافت أنّ الإيرانيين يدفعون روسيا إلى الاضطلاع بدور أكثر فاعلية في الحرب، خصوصاً بسلاح الجو. لكن ردّ موسكو جاء بارداً، وقد عبّر عنه ديبلوماسيون روس بالقول: «مهمّتنا هي دعم القوات الحكومية في قتالها. فإذا انسحبت من مواقعها بلا قتال، لا يمكننا أن نقاتل وحدنا!». وهذا التقاذف للاتهامات يوحي بأنّ أحداً لن يفعل الكثير لمساعدة الأسد كما فعل في الحرب السورية بدءاً من العام 2011. وهذا يبرّر التراجع الدراماتيكي لقدرات القوات الحكومية.
لم تكن سيطرة القوى السنّية الحليفة لتركيا على حلب وإدلب تشكّل خطراً حتمياً على الحكومة المركزية في دمشق. لكن سقوط محافظة حماة، زاد الخطر بالإطلالة على المنطقة الساحلية التي هي معقل الأسد، وفتح الطريق إلى حمص.
وأما السيطرة على حمص فتأثيراتها هائلة، لأنّها بأجزائها المترامية تربط بين القسمين الحيويين للنظام: الساحل والعاصمة. وسقوط حمص يجعل دمشق في وضع صعب، خصوصاً انّه يتزامن مع سقوط المواقع الحكومية جنوباً في درعا والسويداء. وقطع الترابط بين دمشق والساحل يعني محاصرة القوات الحكومية وعزل المنطقة العلوية المدعومة بقواعد عسكرية روسية عن بقية أنحاء سوريا.
وانعكاسات هذا الأمر تتجاوز حدود سوريا، وتصيب لبنان بقوة. ففصائل المعارضة، السنّية إجمالاً، ستصبح في هذه الحال هي الممسكة بالحدود مع لبنان، من زاوية جرود الهرمل ـ عكار شمالاً حتى البقاع الغربي جنوباً. وهذا يقطع الترابط تلقائياً بين الداخل السوري و«حزب الله»، أي يقطع طرق الإمداد عن «الحزب»، باختلاف أشكالها وأنواعها. بل، على العكس، سيكون على الضفة الأخرى من الحدود أعداء لـ«الحزب». وبالتأكيد، ستتوقف أيضاً تدفقات الأسلحة الإيرانية من منطقة الساحل السوري إلى عكار. أولاً لأنّ طريق البر من طهران إلى الساحل ستكون مقطوعة، وثانياً، لأنّ موسكو والأسد لن يدخلا مجدداً في مغامرة نقل الأسلحة إلى لبنان.
وقطع المؤن الإيرانية عن لبنان ستكون له تأثيراته العميقة على الواقع الداخلي اللبناني، لأنّها ستعني تنفيذ القرارين الدوليين 1559 و1680 بسهولة وتلقائياً، سواء أعلن «حزب الله» التزامه بهما أو بقي يرفض ذلك. ولأنّ هذا الأمر سيتزامن مع فترة الـ60 يوماً الاختبارية لاتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل، فإنّ تأثيرات الواقع المستجد ستكون حتمية على تنفيذ الاتفاق. فإذا كان «الحزب» سيدرك أنّ من المتعذر أن يحتفظ بالسلاح في أي منطقة من لبنان، فالأحرى أنّه سيقتنع بإخلاء جنوب الليطاني وتسليم المنطقة فعلاً إلى الجيش اللبناني، على غرار ما سيفعل في المناطق الأخرى.
أهمية معركة حمص أنّ لها تداعيات استراتيجية زلزالية، لا لجهة رسم الخرائط في داخل سوريا، بل إنّ لها تأثيراتها أيضاً في لبنان غرباً وفي العراق شرقاً. فالفصائل السنّية المعارضة تقدّمت أمس إلى جبهة القصير، على حدود لبنان. وأما في الجنوب، حيث درعا والسويداء، تتحركان سريعاً أيضاً، فقد بدأ كل من إسرائيل والأردن بتجهيز الترتيبات اللازمة لمواجهة المستقبل، حيث لم يكن أحد يتصور هذه الانهيارات والتحولات الدراماتيكية، بهذه السرعة الفائقة والسهولة التي لا تصدّق.