انفجار الأزمات في الغرب: انتهاء زمن البحبوحة

انّ ما يحصل في الدول الأوروبية من انفجار للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، نتيجة تداعيات العقوبات الاقتصادية على روسيا، يكشف هشاشة الأنظمة الرأسمالية الغربية، التي بُنيت على نهب واستغلال ثروات شعوب ودول العالم الثالث، والتي بدورها أمّنت من ناحية الازدهار الاقتصادي والتقدّم للدول الأوروبية، ووفرت القدرة على تحقيق الاستقرار الاجتماعي من ناحية ثانية، ولهذا نشأ في الدول الغربية ما سُمّي بالوفاق الطبقي، الذي بُني على تقديم التقديمات الاجتماعية للطبقة العاملة الأوروبية (الامتيازات)، وهي تقديمات جمّدت الصراع الاجتماعي وحدّت من التوترات التي كانت تنجم عن الاستغلال غير المحدود للعمّال قبل استعمار الدول الأوروبية لدول العالم الثالث في الوطن العربي وأفريقيا وأميركا اللاتينية والاستيلاء على ثرواتها، وتحويل هذه البلدان إلى أسواق استهلاكية لمنتجات الدول الغربية الاستعمارية.
قد تكون العقوبات الغربية على روسيا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، والتي عجّلت بانهيار الاستقرار الاجتماعي وتفجر الأزمات الاقتصادية، حيث أدّت العقوبات إلى نتائج معاكسة لما أرادته الحكومات الغربية، حيث لم يؤدّ التوقف عن شراء الغاز والنفط الروسيين، واستيراد المعادن، وقطع العلاقات التجارية مع روسيا، ووقف الاستثمار فيها، وانسحاب الشركات منها، إلى تفجير أزمة اقتصادية عنيفة في روسيا ولم تضعف العملة الروسية وتتسبّب بانهيار القدرة الشرائية للروس، واستطراداً لم تؤدّ الى احتجاجات اجتماعية ضدّ الحكومة كما كانت تراهن الحكومات الغربية، بل انّ كلّ هذه المظاهر حصلت وتحصل حالياً في معظم الدول الأوروبية لا سيما في البلدان التي تعتبر الأقوى اقتصادياً مثل ألمانيا وفرنسا، حيث لم تعد تخلو العواصم والمدن الأوروبية من التظاهرات اليومية ضدّ غلاء الأسعار وازدياد البطالة والمطالبة بزيادة الأجور وتحسين الوضع المعيشي المتهاوي، والتوقف عن مواصلة سياسة العقوبات ضدّ روسيا وتغذية الحرب في أوكرانيا..
قبل الحرب في أوكرانيا وفرض العقوبات على روسيا، لم تكن الأوضاع الاقتصادية في الدول الأوروبية بحالة مريحة، فالعديد هذه الدول كانت تعاني من تراجع معدلات النمو وازدياد الدين وخدمته، وارتفاع في نسب البطالة، وقد بدأت هذه المظاهر للأزمة الاقتصادية الاجتماعية تهدّد بالانقضاض على مكتسبات الطبقة العاملة، لضمان استمرار حصد الأرباح من قبل الشركات الرأسمالية وأرباب العمل الذين بدأوا يهدّدون بنقل مصانعهم إلى الدول الأقلّ كلفة بالإنتاج إذا لم يتمّ تعديل قوانين العمل لمصلحتهم، كما حصل في فرنسا عشية صعود إيمانويل ماكرون إلى السلطة بدعم من هذه الشركات الرأسمالية..
من هنا فإنّ مظاهر الأزمات في الدول الرأسمالية الأوروبية بدأت منذ ما قبل أزمة انتشار وباء كورونا، لكنها تفاقمت واشتدّت بعده وتفاقمت وأصبحت أكثر تأزماً نتيجة تداعيات العقوبات الاقتصادية على روسيا، حيث أدّى ارتفاع أسعار الطاقة، إلى ازدياد أسعار البنزين والمازوت والغاز والكهرباء على نحو غير مسبوق، واستطراداً أدّى إلى ازدياد تكاليف المعيشة والإنتاج، مما فجر الأزمة في الشارع ودفع بعض الشركات إلى نقل مصانعهم إلى الخارج، الأمر الذي زاد من نسب البطالة وصبّ الزيت على نار الأزمة المتفجرة..
لذا يمكن القول انّ الدول الرأسمالية الأوروبية أمام أزمة اقتصادية واجتماعية نوعية، نابعة من تراكم الأزمات، نتيجة تقلص حصة الدول الأوروبية من الناتج الإجمالي العالمي بفعل اشتداد المنافسة الاقتصادية الدولية، بعد نهوض اقتصادات الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وروسيا، وغيرها، واكتساح منتجاتها الأسواق العالمية.. وزاد من هذه الأزمة في أوروبا، الجمود الاقتصادي الذي تسبّب به انتشار وباء كورونا، ثم جاءت تداعيات العقوبات ضد روسيا، على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي في عموم أوروبا.. ما يؤشر إلى أنّ زمن الرفاه والبحبوحة، والوفاق الطبقي، قد ولى في الدول الأوروبية ليحلّ مكانه زمن تفجر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، التي يهدّد استمرارها وعدم مسارعة الحكومات الغربية إلى التوقف عن دعم الحرب في أوكرانيا، وعن مواصلة سياسة العقوبات ضدّ روسيا.. يهدّد بانفجار ثورات اجتماعية تحدث متغيّرات في غير مصلحة سياسة الولايات المتحدة، هو ما شكل السبب الأساسي الذي دفع الإدارة الأميركية مؤخراً إلى فتح قنوات الحوار مع موسكو كما ذكرت صحيفة “واشنطن بوست”…

Exit mobile version