الوداع الأخير لنصرالله: أي سرّ جعله أميناً عاماً؟

الوداع الأخير لنصرالله: أي سرّ جعله أميناً عاماً؟

كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:

لماذا وقع الاختيار على السيد حسن نصرالله في 16 شباط 1992 ليكون الأمين العام الثالث لـ”حزب الله”؟ تبدأ قصة “السيد” المعروفة من تاريخ تبوئه هذه المسؤولية خلفاً للسيد عباس الموسوي في اليوم الذي نجحت إسرائيل في اغتياله. هذا المنصب الخطير قسم حياة نصرالله إلى نصفين. 32 عاماً أمضاها في طريق الوصول، وهي مرحلة يكتنفها الكثير من الغموض، و32 عاماً أمضاها في صناعة صورته وقيادته قبل أن تنتهي باغتياله في 27 أيلول 2024.

غداً تطوى الصفحة الأخيرة من سيرة السيد حسن نصرالله في مراسم تشييعه إلى مرقده الأخير قرب طريق المطار. هذا التشييع الذي أراد منه “الحزب” أن يكون الوداع الأخير لمن صار رمزه سيكون أيضاً تاريخ انتقال “الحزب” من مرحلة صنع فيها معه أقصى الإنجازات إلى مرحلة يواجه فيها بغيابه أقسى الاستحقاقات والعقوبات. لا شك في أن الحشود الشعبية التي ستشارك في تشييع نصرالله، ستكون مشاركة في تشييع المرحلة التي عاشها الحزب مع قائده التاريخي، من دون أن تتمكن من صناعة طوق نجاة له. فالحشود لا تقيم الموتى ولا تصنع المعجزات. كثيرون ممن لم يقبلوا أن يصدقوا أن “السيد” يمكن أن يموت سيسيرون في جنازته يوم الوداع الأخير القاسي والمرّ.

عبد الناصر مات

توفي الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر في 28 أيلول 1970. وفي أول تشرين مشى في جنازته، التي حضرها معظم رؤساء الدول العربية، أكثر من خمسة ملايين مصري. كانت وفاته صدمة لمن أحبوه واعتبروا أنه أمل الأمة والوحدة العربية، ولكنها كانت فرحة لمن عارضوه وعانوا من سياساته ومغامراته. صحيح أن الجنازة كانت لعبد الناصر وأنه انتهى ودُفِن، ولكنها أيضاً كانت تشييعاً للناصرية، وتلك الجموع التي أتت لتودّعه كانت تودّع مرحلة وتدفنها معه. لم يصل زعيم “حزب الله” إلى المستوى الذي وصل إليه عبد الناصر، وإن كان البعض يعتبر أنه تفوّق عليه، ولكنّ صورة وداعه لا تختلف كثيراً عن صورة وداع زعيم مصر.

الروايات التي تتحدث عن سيرة نصرالله قبل عام 1992 قليلة. والمعلومات المعروفة عنه لا تشبه ما صار عليه بعد ذلك العام، ولا تكفي لتفسير اختياره أميناً عاماً لـ”الحزب” خلفاً للموسوي. عشرة أعوام، بين 1982 و1992، كانت حافلة بالتغيير داخل قيادة “الحزب” الذي خرج إلى العلن بكثير من المعارك والمواجهات، لينتقل بعدها إلى قيادة نصرالله التي استمرت 32 عاماً، حتى اغتياله، إلى الحدّ الذي محا معه وهج القيادات السابقة وسيمحو وهج من أتى أو سيأتي بعده.

السيرة الناقصة

بعد تبوّئه منصب الأمانة العامة، كانت لنصرالله إطلالات تحدّث فيها عن سيرته ولكنّها بقيت قليلة قبل أن يقفل الباب أمام أي بوح آخر بعدما تحوّل إلى هدف إسرائيلي ثابت ودائم.

معروف أنه ابن عبد الكريم نصرالله من بلدة البازورية وهو التاسع في عائلة من 11 ولداً، ولد في 31 آب 1960 في حي شرشبوك في برج حمود وبقي هناك حتى الخامسة عشرة من عمره وكان لوالده دكان صغير ولم تكن العائلة متديِّنة. بعد بدء الحرب عام 1975 وعمليات التهجير انتقل مع العائلة إلى البازورية وتعلّم في صور، ثم انضمّ إلى “حركة أمل” وعُيِّن مندوباً لها في البازورية. تعرَّف في صور إلى إمام مسجد الإمام جعفر الصادق السيد محمد الغروي، الذي ساعده في الذهاب إلى النجف لتلقّي العلوم الدينية. التقى هناك السيد عباس الموسوي، الذي ستجمعه به شراكة في تأسيس “حزب الله”. وقد اضطُرّا للعودة إلى لبنان عام 1979 بسبب تضييق الرئيس العراقي صدام حسين على الحوزات الدينية. درس نصر الله في الحوزة الدينية التي أسسها السيد عباس في بعلبك. وأصبح لاحقاً مندوب “حركة أمل” في البقاع، وعضواً في مكتبها السياسي المركزي.

قبل 1982 وبعده

حصل كل ذلك قبل عام 1982 وبعد ثلاثة أعوام على انتصار الثورة الإسلامية في إيران. أي أن نصرالله لم يكن قد تخطى بعد الثانية والعشرين من عمره ليبدأ مرحلة جديدة مختلفة كلّياً. حيث انخرط مع مجموعة من “أمل” وحزب “الدعوة” في تأسيس ما سيصير لاحقاً “حزب الله”. ولكن قبل عام 1992 لم يكن نصرالله من بين الأسماء البارزة والمعروفة بصورة علنية في “الحزب”. بين عام 1982 وعام 1985 برز اسم عماد مغنية كأحد أبرز قادة الحزب الأمنيين الذي ارتبط اسمه بالعلميات الانتحارية التي نفذت ضد مركز الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور في 11 تشرين الثاني 1982، ثم في السفارة الأميركية في عين المريسة في 18 نيسان 1983، ومقري المارينز والمظليين الفرنسيين قرب المطار في 23 تشرين الأول 1983، وعمليات خطف الطائرات. وفي شباط 1985 كان السيد ابراهيم أمين السيد هو الذي يعلن “الرسالة المفتوحة” كاشفاً عن “الحزب” ودوره واستراتيجيته. وإن كان نصرالله قد سلك طريق النهج الديني وتعمّم، ولكنّه لم يكن متقدّماً بين رفاقه. حيث كان اسم الشيخ صبحي الطفيلي هو الأبرز ليكون الأمين العام الأول عام 1989، بينما كانت الحرب مستعرة مع “حركة أمل”. في هذه المرحلة تبرز رواية ذهاب السيد حسن نصرالله إلى إيران، كما قيل، لمتابعة دروسه الدينية. ولكن احتدام المعارك مع “أمل” حتّم عليه العودة إلى لبنان. هنا يبرز السؤال عمّا كان يفعله في طهران؟ وعمّا إذا كان جمع بين العمامة والدور العسكري والأمني غير الظاهر ليتقدم على غيره.

تابع لإيران أم مستقلّ؟

بعض ما تسرب من معلومات تحدّث عن خلاف داخل قيادة “حزب الله” بين تيار يريد استكمال الحرب مع “أمل” والحسم العسكري، وتيار يريد التسوية. وكانت هناك تسريبات أيضا حول خلاف كبير بين أن يكون “الحزب” يتمتع باستقلالية وبين أن يكون تابعاً مباشرة لإيران تطبيقاً لتبني ولاية الفقيه. وهنا يبرز الاختلاف بين تيار الشيخ الطفيلي وبين السيد عباس الموسوي ومعه السيد حسن نصرالله. وقد حسمت إيران الخيارات باختيار الموسوي أميناً عاماً عام 1991، بعد خلع الطفيلي وبعد التوصل إلى الاتفاق الذي أنهى الحرب بين “الحزب” و”الحركة” في دمشق برعاية النظامين السوري والإيراني. وهذا الاتفاق حسم مسألة أن يكون “الحزب” هو الوحيد الذي يتولّى العمل المسلح والمقاومة مقابل أن يكون رئيس “حركة أمل” نبيه بري رئيساً لمجلس النواب وممسكاً بتمثيل الشيعة داخل السلطة. وهكذا كان من المفاجئ أن يكون السيد حسن خلفاً للسيد عباس. ولكن القرار كان في إيران التي اختارت الخط الذي يمثّلها في قيادة “الحزب” وقرّرت أن يكون الموسوي أميناً عاماً مع تحضير نصرالله ليكون خليفته، وإن كان تمّ تعيين الشيخ نعيم قاسم نائباً له.

بقي الشيخ صبحي الطفيلي داخل “الحزب” حتى عام 1998 عندما أعلن “ثورة الجياع” وقاد حركة تمرّد ضد القيادة وخياراتها الإيرانية. بعد حادثة الحوزة الدينية في عين بورضاي التي كادت تقضي عليه، أخرج الطفيلي إلى العلن بعض أسرار تلك المرحلة. كان الصراع صراع حياة أو موت بينه وبين السيد حسن نصرالله. ففي أكثر من إطلالة إعلامية كشف الطفيلي عن أن الصراع بدأ بين من يريد أن يكون قرار “الحزب” لبنانياً مستقلاً ينسق مع إيران، وبين من يريد أن يكون تابعاً بالكامل لها. وهو لذلك دعا أكثر من مرة إلى محكمة حزبية مستقلّة تحقّق في المعارك التي ارتُكبت فيها مجازر مع “حركة أمل”، وخصوصاً معركة إقليم التفاح التي فكّ فيها “الحزب” الحصار وانقضّ بعدها على الحركة ليسيطر على كامل الجنوب ويحسم الوضع في الضاحية الجنوبية التي لم تبقَ فيها “أمل” إلا في منطقة الشياح الأمر الذي فرض على نبيه بري القبول باتفاق دمشق، والتنازل أمام “الحزب”. أيضاً كشف الطفيلي كيف أن “المقاومة” كانت تُطعَن في الظهر وكيف أن كثيرين من “المقاومين” قُتِلوا في ظروف غامضة وهم عائدون من عمليات نفّذوها أو ذاهبون لتنفيذها. ولم يتوانَ عن إعلان معارضته تحوّل “الحزب” إلى حرس للحدود مع إسرائيل بعد حرب تموز 2006، كما عارض بشراسة انخراط “الحزب” في الحرب السورية تنفيذاً لأوامر طهران.

التطورات التي حصلت منذ تولّي نصرالله الأمانة العامة حتى اغتياله تفسّر السبب الذي أدى إلى اختياره لهذه المهمة. ولكن يجوز السؤال أيضاً عما إذا كان من الممكن الفصل بين “الحزب” وبين إيران؟ وعما إذا كان من الممكن أن يصل “الحزب” بقيادة نصرالله إلى ما وصل إليه لولا هذا الدعم الإيراني؟ وبالتالي لو انتصرت نظرية الطفيلي هل كان “الحزب” تجنّب كل هذه الخسارات المتتالية التي تجمعت في الهزيمة الأخيرة القاصمة التي تعرّض لها؟

 

Exit mobile version