لأَنَّهُ لَيْسَ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ مَكْتُومٌ لاَ يُعْلَمُ وَيُعْلَنُ. (لوقا 8:17)
كالعادة في #لبنان تطفو مواضيع على سطح الاهتمام وتأخذ حيزاً كبيراً من المتابعة والضوء بصرف النظر عن أهميتها الفعلية، وتُفرضُ على #الرأي العام وإن لم تكن تعنيه بالفعل وبالقدر الذي تأخذه في التغطية الإعلامية والنقاش العام. كذلك هي مسألة حضور وفد “قضائي” أوروبي إلى لبنان طلباً لـ”المساعدة القضائية” في مواضيع مالية وتحقيقات جارية هنا أو عالقة هناك. وقد بدا أنها تهمّ النافذين أو تثير خشيتهم أكثر مما تعتقد عامة الناس أو تصدّق بأنها قد تصبّ في صالح المقهورين.
هكذا يسيل كثير من الحبر، أكثره من النوع الافتراضي، حول مهمة الوفد وصلاحياته والسيادة الوطنية المنتهكة لدى البعض والرغبة لدى البعض الآخر بالاقتصاص من الخصوم… وأكثر المراقبين فهماً لم يتوقفوا عند هذه وتلك بل تساءلوا عن الهدف الحقيقي للزيارة التي تزامنت مع حديث الرئيس الفرنسي من الأردن عن المسؤولين اللبنانيين.
الدول الأوروبية التي يَفِدُ قضاتُها إلى لبنان تفصل ما بين السلطات، والقضاء عندها سلطة مستقلة لا تخضع للسلطة التنفيذية أو لنفوذ القوى السياسية هناك أو غيرها من مواقع النفوذ. وهذا الأمر وإن كان صحيحاً في المبدأ، فهو يحتمل حدّين لا بد من الانتباه لهما.
الحدّ الأول هو أن مبدأ فصل السلطات الذي يسمو إلى المرتبة #الدستورية هو نسبيّ في التطبيق وإن كان مطلقاً في المبدأ. أي أن المبدأ المذكور هو طموح أو هدف تبقى السلطات عاملة عليه ما استطاعت، ولكنها تُحيّده كما يُحيّد غيره من المبادئ السامية عندما تتطلب ذلك المصالح العليا للدولة les raisons d’etat، وهذا المفهوم الأخير هو إنتاج فرنسي كذلك مبدأ الفصل بين السلطات الذي يُنسب إلى مونتسكيو من القرن الثامن عشر.
أما الحدّ الثاني لمبدأ فصل السلطات وتحديداً استقلال السلطة القضائية، فهو أنه مبدأ دستوري داخلي ويُنتج مفاعيله على الصعيد الداخلي للدول مبدئياً، وعندما تخرج السلطة القضائية، “المستقلة” داخلياً إزاء السلطتين الأُخريَيْن، إلى خارج حدود الدولة التي تنتمي إليها لتمارس التحقيق والملاحقة هناك، فإنها لا بد أن تمرّ في ممرّين إلزاميين لكل من السلطتين التنفيذية والتشريعية. إن قواعد التعاون مع السلطات القضائية الخارجية تنظمها المعاهدات الدولية، الثنائية أو المتعددة الأطراف، التي تقرّها السلطة التشريعية. والعلاقات الخارجية والاتصال بالسلطات القضائية في البلاد الأخرى تمرّ في وزارة الخارجية وتخضع بالتالي لتقديرها ولسياستها، ولسياسة السلطة التنفيذية هناك. وهذا ما يظهر بوضوح في تشكيل الوفود التي تضمّ قضاة ملاحقة ورجال أمن ويرافقها حضور ديبلوماسي فاعل.
قد يعود سبب “الهلع” الداخلي إلى أن طلب “المساعدة القضائية” يأتي في إطار تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي أقرها لبنان العام 2008 والتي تقول أنه “لا يجوز للدول الأطراف أن ترفض تقديم المساعدة القانونية المتبادلة بمقتضى هذه المادة بحجة السرية المصرفية”.(المادة 64). ولكنها توضح أن الدول الأطراف تتعاون في المسائل الجنائية حيثما كان ذلك مناسباً ومتسقاً مع نظامها القانوني الداخلي (المادة 43). وربما يُذكّرُ المحققون الألمان البعضَ بالمحقق الألماني ديتليف ميليس الذي اشتهر باندفاعه الكبير في التحقيق باغتيال الرئيس رفيق الحريري.
تتراكم الملفات والجرائم التي تُطمَس حقائقها ولكن ما خفي لا بد أن يظهر ولو بعد حين، وإذا تعارضت مصالح الدول حيناً مع ظهور الحقيقة، كما جرى إلى الآن في تفجير المرفأ والجرائم المالية التي أفقرت اللبنانيين، فلا بدّ أن تتبدّل الظروف والمصالح وأن يُتاح كشف المجرمين. والمحاكمة الأهم عندها تُجرى أمام التاريخ.