أدت الأزمة الاقتصادية في 2019 إلى عجز الدولة اللبنانية عن استيراد الفيول لتشغيل المعامل، وعمت العتمة أرجاء لبنان مما أجبر المواطنين على اللجوء للمولدات التي ارتفعت ساعات عملها في بيروت مما لا يقل عن 18 ساعة في اليوم، وطبعًا ازدادت انبعاثاتها كنتيجة حتمية.
يعاني اليوم الناس من قطاع المولدات المتفلت بجانب البيوت وبين المجمعات السكنيّة، من ضجيج وإرتجاجات لامتناهية تؤثر على أعصابهم وصحتهم النفسيّة، بالإضافة إلى تلوّث خطير وانبعاثات تؤدي إلى أمراض مزمنة وقاتلة.
في أحد أحياء بيروت المكتظة بالمولدات تعيش شابة لبنانية – فضلت عدم ذكر اسمها،- مع والدتها المريضة. تختصر هذه الشابة معاناة كُثر من اللبنانيين المستسلمين لهذا القدر:” أنا وأمي نواجه مشاكل في التنفس بسبب الدخان المنبعث من مولد كهربائي موجود في الحي الذي نقطنه في بيروت، بينما أسعار الأدوية مرتفعة جدًا في وقتنا الراهن. أمي امرأة مُسنة عاجزة عن تحمّل الروائح والأصوات الصاخبة. نضطر إلى فتح النوافذ لاستنشاق الهواء إذ ليس بإمكاننا تشغيل التكييف على مدار اليوم، فنتنشق الملوثات الناتجة عن المولدات الكهربائية”.
المواد المسرطنة “تضاعفت” في هواء بيروت
تسلط هذه القصة الضوء على تلوث الهواء في لبنان الذي ارتفع نتيجة الأزمة الاقتصادية وسوء التغذية الكهربائية. إذ ارتفعت نسبة التلوث بحسب النائبة اللبنانية وعالمة الكيمياء الدكتورة نجاة عون صليبا، التي أجرت دراسة لتبيان مدى تلوث الهواء في بيروت في العام 2022-2023 في مراكز ضمن نطاق العاصمة اللبنانية بيروت، من ضمنها وسط بيروت، الجامعة الأمريكية، وبالقرب من مستشفى المقاصد. ارتكزت الدراسة إلى فحص الجزيئات [1]العالقة في الهواء على مدار سنة كاملة، ومن خلال التحليل الكيميائي لها تبين وجود مواد سرطانية.
تقول صليبا إن “50% من المواد المسرطنة تقريبًا ناتجة عن المولدات الكهربائية والدخان المتفاقم” وإن النتيجة التي تم التوصل إليها خطيرة جدًا. فبعد مقارنتها بدراسة أُجريت عام 2010 تبيّن أن المعادلات السرطانية “تضاعفت” بسبب اعتماد العاصمة اللبنانية على مولدات الديزل بشكل مفرط (حوالي أكثر من 20 ساعة في اليوم). بالأرقام أظهر التحليل الذي أُجري في بداية 2022 في ثلاث مناطق في بيروت، أرقاماً مرعبة من (Particulate Matter]2]) وصلت في بعض الأيام إلى 60 ميكروغرام/متر مكعب، علما أن المعدل السنوي المحدد من منظمة الصحة العالمية هو 5 ميكروغرام/مترًا مكعبًا فقط ، كما ارتفعت مساهمة المولدات في تلوث الهواء بنسبة 100%. بالنتيجة ارتفع خطر الإصابة بالسرطان بنسبة 53 % مقارنة بالدراسة السابقة التي أجريت في 2018 والتي أظهرت في وقتها أرقامًا مرتفعة من (Particulate Matter) و (Polycyclic Aromatic Hydrocarbons 3).
ففي 2018، تم تحديد مصادر التلوث وكانت بصفة عامة انبعاثات[4] السيارات بنسبة 46% و23% لانبعاثات مولدات الديزل. كما تم حساب معدل زيادة خطر الإصابة بالسرطان، وكانت النتيجة أكبر من الحد المحدد من المنظمات العالمية بنسبة 126%. بناء على خطورة الواقع، ناشدت صليبا المعنيين لمتابعة هذا الموضوع بدقة وتطبيق المراسيم التي اعتمدتها وزارة البيئة ومن ضمنها مرسوم صدر عام 2023 يشدد على التزام المولدات بالفلاتر ومعايير السلامة.
فالتعرض الطويل والمفرط لهذه الجزيئات السامة وخاصة بكميات مرتفعة له آثار على صحة الإنسان. هذا النوع من التلوث يتسبب بأمراض الربو والحساسية ويمكن أن تنتج عنه أمراض جلدية على المدى القريب بحسب رئيس قسم الطب الداخلي والمناعي في مستشفى الجعيتاوي الدكتور فادي حداد. أما على المدى البعيد فقد تتسبب هذه الملوثات بانسداد رئوي مزمن وسرطان الرئة وجلطات دماغية وقلبية. أما الأكثر عرضة فهي الفئات الضعيفة كالأطفال والمسنون وذوي الإعاقة والمصابون بأمراض مزمنة والحوامل اللاتي قد يخضعن لولادات مبكرة، كما يؤثر ذلك على نمو الأجنّة.
دور الوزارات والبلديات
من المعروف أن وزارة الاقتصاد لها الحق بتنظيم محاضر ضبط بأصحاب المولدات الكهربائية الخاصة لعدم التزامهم بالتسعيرة الرسمية للكيلوواط الصادرة عن وزارة الطاقة والمياه ولعدم استكمال تركيب العدادات، لكن هل لها الحق في ملاحقة من لا يلتزم بالفلاتر التي ألزمت بها وزارة البيئة؟
يوضح مدير عام وزارة الاقتصاد محمد أبو حيدر أن دور الوزارة في هذا المجال يقتصر على تنبيه أصحاب المولدات للالتزام بالفلاتر، أما السلطة الردعية فهي كل من وزارة البيئة والبلديات التي يمكنها ملاحقة أصحاب المولدات لعدم التزامهم بالفلاتر المطابقة للشّروط والمواصفات التي حدّدتها وزارة البيئة.
بناء عليه أشار مدير مصلحة المؤسسات المصنفة في بلدية بيروت المهندس باسم العويني إلى أنه تم تعميم قرار وزارة البيئة الصادر في شهر أكتوبر من العام 2023 على جميع أصحاب المولدات في العاصمة بيروت لالزامهم بـ فلاتر السخام [5]خلال مهلة 6 أشهر من تاريخ صدور القرار لأن هذه الفلاتر ليست موجودة في الأسواق اللبنانية واستيرادها يستلزم وقتاً. عند انتهاء هذه المهلة سيتم إجراء كشوفات على الشركات والمؤسّسات والمولّدات الخاصّة في العاصمة بالتنسيق بين النيابة العامة البيئية وبلدية بيروت ، بهدف إلزام أصحاب المولدات بتركيب هذه الفلاتر. كخطوة أولى سيتم توجيه إنذارات لشراء الفلاتر خلال مهلة شهر، ويقوم جهاز أمن الدولة بفتح محضر إلى حين انقضاء هذه الفترة ، أما في حال عدم التجاوب فقد يصار إلى ختم المولد بالشمع الأحمر..
مبادرات تشريعية للحد من تلوث المولدات
بظل الفوضى الحاصلة وعدم ضرب المعنيين بيد من حديد على الرغم من دق ناقوس الخطر، برز عدد من المبادرات لتنظيم قطاع المولدات، بعضها تشريعي.
ففي اقتراح قدمه مستشار النائب تيمور جنبلاط، طارق ذبيان، يتحول كل أصحاب المولدات إلى مساهمين لشركة مساهمة تجارية، بحسب رئيس لجنة الصحة النيابية وعضو اللقاء الديمقراطي النائب بلال عبد الله. هذا الاقتراح يُسهم في إلزام المولدات بالتجمع في إطار شركة واحدة يمكن من خلالها ضبط الأضرار وتنظيم الجباية والسعر. وبالتالي فإن الهدف من هذا الاقتراح الموجود على جدول أعمال اللجان النيابية، هو تنظيم القطاع في بيروت عبر التجمع في مناطق معينة بعيداً عن الأحياء السكنية لإبعاد الضرر عن السكان.
أما الاقتراح الثاني الذي تقدّم بناء على توصية محافظ بيروت، فهو مرتبط بتحديد غرامة مالية كبيرة على كل من لا يلتزم بالشروط القانونية البيئية التي وضعتها وزارة البيئة على المولدات ومنها الفلاتر. من شأن هذا الاقتراح بحسب عبدالله أن يعطي أداة ردعية لكل من يخالف القانون ويعرض صحة الناس للضرر “فهذه مسألة خطيرة لا يجب أن نتأخر في معالجتها أبدا، وشأنها شأن كل المسائل المرتبطة بصحة الناس، وتساهم في تعزيز السياحة في لبنان وتأمين المناخ النظيف”.
مع الإشارة إلى أن الحزب التقدمي الاشتراكي كان عقد في الفترة الأخيرة مؤتمراً لمتابعة ملف التلوث الناجم عن المولدات الكهربائية في مدينة بيروت، بعنوان “الطريق إلى مدينة خضراء: “نقاش حول تلوث الهواء الناتج عن المولدات”، وقال النائب الدكتور بلال عبدالله على هامش المؤتمر إنه بعد توجيهات من الرئيس وليد جنبلاط ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي تيمور جنبلاط، بعد نشر دراسة للجامعة الأمريكية في بيروت حول المستوى العالي للتلوث نتيجة المولدات وتأثيرها على الصحة: “قمنا بجولة على وزير البيئة، وزير الصحة، ومحافظ بيروت واستمعنا إلى وجهات النظر والتطرق إلى الإجراءات للتخفيف من حدة الضرر على أهلنا في بيروت”، وتابع عبدلله: “في الوقت الحاضر ليس هناك بديل عن المولدات الكهربائية وسط صعوبة تأمين الطاقة البديلة [6]في بيروت بعكس الأرياف والقرى، حيث أصبحت الطاقة الشمسية هي الأساس في التغذية، لذلك قمنا بهذه المبادرة لاقتراح قوانين”.
دور الحركة البيئية
في انتظار اكتمال التشريعات تنشط بعض المبادرات البيئية في محاولة للحد من تفاقم أزمة تلوث الهواء جراء انبعاثات المولدات. فالحركة البيئية تتابع عبر المرصد البيئي ملف تلوث الهواء في بيروت، بعد ورود شكاوى عن نوعية الهواء السيئة بسبب أزمة المولدات الكهربائية التي تجاوز عددها 9 آلاف مولد يعمل على الديزل في بيروت الإدارية وحدها وبحدود 30 ألف مولّد في لبنان، في ظل غياب خطة واضحة من الدولة اللبنانية لأية استراتيجية على المدى الطويل لحل أزمة قطاع الطاقة في لبنان.
فالمرصد بحسب مستشار الحركة البيئية لشؤون البيئة، البروفيسور حسان مخلوف، يتلقى شكاوى المواطنين الذين يعانون من دخان المولدات الكهربائية ضمن نطاق سكنهم. مع ورود الشكوى يتم التواصل مع المدعي العام البيئي الذي يكلّف بدوره الأجهزة الأمنية بإلزام المواطنين المخالفين بالفلاتر، ويتابع مخلوف: “نحن نوصل أصواتنا عبر وسائل الإعلام لمواجهة هذه الكارثة البيئية التي تتزايد خطورتها بشكل كبير في مدينة بيروت وضواحيها، وما نتج من انبعاثات خطيرة على مستوى أوكسيد الكبريت وأوكسيد النيتروجين”. لكن في المقابل ليس لدى الحركة البيئية سلطة لإجبار المواطنين على الالتزام بالقواعد اللازمة وتركيب الفلاتر أو شراء فيول مطابق للمواصفات المطلوبة.
إذا مع ازدياد نسبة السرطان والأمراض التنفسية بحدود 16 و20% بحسب الحركة البيئية، وصف مخلوف الوضع بـ”الخطير” مؤكدًا أن لا حلّ في ظل غياب هيبة الدولة واستمرار الفساد وعجز جزء كبير من المواطنين عن اعتماد الطاقة الشمسية بسبب كلفتها العالية.
الأبعاد القانونية
على ضوء الدراسة التي تطرقنا لها التي قامت بها د. نجاة عون صليبا في الجامعة الأميريكية، أجرى المعهد الإجتماعي الإقتصادي للتنمية مؤتمراً صحافياً في أواخر شهر تموز تحت عنوان مخاطر التلوث وضرورة المواجهة، حيث تم البحث الذي أفاد أنّ الاعتماد على مولدات الديزل الخاصة كبديل للإمداد المستمر بالكهرباء أدّى إلى تفاقم كبير للتلوث البيئي في لبنان. وقد أسهمت الدراسة العلميّة التي أجريت وشكاوى المواطنين العديدة والمستمرة في تسليط الضوء على العواقب الوخيمة لإستمرار التشغيل العشوائي وعلى حجم المخاطر المتوقعة والآنية. بناء عليه، اتخذ المعهد خطوات تصاعدية من اجل درء الخطر:
أولاً: عبر المطالبة بتطبيق القوانين المرعية الإجراء لا سيما قانون حماية الهواء وقانون حماية البيئة والتعاميم الصادرة عن وزارة البيئة
ثانيًا: عبر تقديم شكاوى المواطنين إلى المحافظات المعنيّة
ثالثًا: محاولة حثّ الإدارات المعنية بالمراقبة والمتابعة، وذلك عبر تقديم كتب إلى كل من وزارة الطاقة والمياه، والبيئة، والداخلية والبلديات، تضمنت ضرورة متابعة تنظيم وممارسة الرقابة الجدية على قطاع المولدات في لبنان. حيث تمت مطالبة كل الوزارات المعنيَة اتخاذ التدابير الهادفة إلى الحفاظ على الهواء والبيئة والتنوع الحيوي [7]والتوازن الطبيعي في البلاد، والعمل بجديّة وإتخاذ الإجراءات، وإحالة كافة الشكاوى إلى النيابات العامة البيئية لإجراء المقتضى والقيام بدورها لوقف الإنتهاكات لتفادي إزهاق أرواح الناس والمخاطرة بصحتهم.
وأكد المحامي شكري حداد، أحد المحاضرين في المؤتمر أنّ الخطوة التالية ستكون تقديم إخبار عام أمام النيابة العامة البيئيّة لمواكبة رفع التعديات وأنه يشجع المواطنين على تقديم الشكاوى، معوّلاً على دور النيابة العامة في محاسبة المسؤولين والمخالفين.
الحلول والمعالجة
نسبة تلوّث الهواء في ارتفاع مستمر وتجاوزت المستويات المسموح بها وفق منظمة الصحة العالمية والخطر يهدد حياة اللبنانيين عموما وسكان بيروت خصوصاً، مع تعدد مصادر الملوثات الهوائية وأبرزها المولدات الخاصة.
وبالتالي فإن الحل الوحيد للتخلص من المولد هو تشغيل المعامل التابعة لمؤسسة كهرباء لبنان، التي لا تزال عاجزة مالياً عن استيراد الفيول.
في هذا الوقت يقول مدير المركز اللبناني لحفظ الطاقة بيار الخوري إن وزارة الطاقة تبذل جهدها لتأمين نفط من العراق لتشغيل المعامل لكنها تواجه مشكلة بسبب التحويلات التي يفترض بمصرف لبنان أن يجريها. وفيما العالم يتجه نحو الطاقات المتجددة، وضعت وزارة الطاقة هدفاً لل 2030 وهو الوصول إلى حوالي 30 % من إجمالي توليد الكهرباء عبر الطاقات المتجدّدة مما يساعد على تخفيف الانبعاثات من المعامل الحرارية والمولدات الخاصة المنتشرة، والاستفادة من الطاقة النظيفة[8]. يقول خوري إن وزارة الطاقة أنجزت الجزء الأكبر مما التزمت به على الصعيد التقني أي على صعيد المناقصات والعقود مع القطاع الخاص المتخصص بإنتاج هذا النوع من الطاقة، كما بدأت بتنفيذ بعض المشاريع. لكن الوزارة ليست الوحيدة الناشطة في هذا المجال بل إن العمل بحسب خوري هو نتاج عمل مشترك مع الحكومة والمجلس النيابي. فالمجلس الوطني للبحوث العلمية التابع لرئاسة الحكومة قام بدراسات وكذلك التنظيم المدني. أما المجلس النيابي فقد أقر القانون 318 لإنتاج الطاقة المتجددة الذي يحدد دور الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء مما يسمح للقطاع الخاص بانتاج الطاقة.
جهينة حمادة- الديار