المشكلة الأكبر التي تواجه سلام

المشكلة الأكبر التي تواجه سلام

كتب عمر نشابة في “الأخبار”:

يمكن تحميل تدخّل القوى الخارجية في الشؤون اللبنانية جزءاً من مسؤولية الفشل في بناء الجمهورية اللبنانية منذ إعلان الاستقلال عام 1943. علماً أن سعي الدول الأجنبية إلى التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد ليس مستغرباً، بل يُعد من مهمات الحفاظ على مصالح الدول المتدخّلة وتقوية نفوذها المحلّي والإقليمي والدولي، وخصوصاً إذا كان موقع البلد المستهدف إستراتيجياً، وإذا كان قادراً على التأثير في المنطقة التي يقع فيها، أو إذا كان يمتلك موارد يمكن الإفادة منها.

خلال 82 سنة من «الاستقلال»، اتُّهمت قوى عدة بالتدخل في الشؤون اللبنانية، منها سوريا وفرنسا والسعودية والفلسطينيون ومصر وإيران والولايات المتحدة وبريطانيا، وأخيراً ألمانيا وإيطاليا والإمارات العربية المتحدة وقطر. ولطالما كان الذين يتهمون خصومهم بالولاء لجهة خارجية يحظون بدعم جهة خارجية أخرى تنافسها.
ولا بد من الاعتراف بأن تدخّل الدول الخارجية في الشؤون اللبنانية لا يمكن أن يتحقق من دون قبول اللبنانيين به. وفي كثير من الأحيان، كانت مجموعات متصارعة من اللبنانيين تستجدي التدخل الأجنبي للحصول على دعم سياسي ومالي وعسكري منها. لكن هذا لا يعني إطلاقاً أن كل ما حدث في لبنان، كما يدّعي البعض، هو «حرب الآخرين على أرضنا»، بل هو صراع مستمر بين اللبنانيين أنفسهم مستخدمين كل الأسلحة والوسائل المتاحة.

لا يمكن الحسم بأن الدول الأجنبية التي تتدخّل في لبنان هي المسؤولة عن خراب البلد. وقد شهدت السنوات الماضية مراحل تشبه المرحلة الحالية، رُفعت فيها شعارات وأُطلقت حملات إعلامية تدّعي بأن السبب الأساسي لكل المشكلات التي يعاني منها لبنان هو التدخل الفلسطيني أو السوري أو الإيراني أو الأميركي أو الفرنسي الخ… وهم يزعمون اليوم، أن انهيار النظام السوري وانحسار النفوذ الإيراني في لبنان يشكلان فرصة ذهبية ليستعيد لبنان عافيته. لكن هذا لا يعني إنهاء التدخل الخارجي في الشؤون اللبنانية، بل العكس تماماً. إذ استبدل نفوذ دول خارجية بنفوذ دول أخرى.
ولا يزال البعض يرفض التسليم بأن تدخّل الدول لم يُفرض على اللبنانيين بالقوة، بل كان ولا يزال خيار عدد كبير منهم.

المشكلة الأساسية في لبنان هي أن اللبنانيين أنفسهم ليسوا مختلفين بشكل جذري بشأن الدولة والتفاصيل العملية والمرحلية مثل تشكيل الحكومة والمحاصصات والترتيبات الزبائنية وشكليات الوفاق الوطني والتعايش بين الطوائف والمذاهب والملل، بل هم مختلفون بشأن الركائز الأساسية لبناء الجمهورية.

يختلف اللبنانيون بشأن تحديد الهوية الوطنية ويختلفون بشأن تحديد أسس الجمهورية ومنطلقاتها. وأي حديث عن أن وقف التدخل الأجنبي في شؤونهم يشكل بداية خلاص لبنان هو مجرّد وهم أو حلم بحلّ سريع، يسمح للبعض أن يدّعوا بأن اللبنانيين هم مجرّد ضحية، وأن دولاً وأنظمة أخرى تتحمل كامل المسؤولية عن كل ما عانوا ويعانون منه.
ويلمّح رئيس الحكومة المكلّف نواف سلام إلى ما يكرره بعض المحللين بأن المشكلة هي الأحزاب التي تحصل على دعم خارجي. لكنه، ربما، يتجاهل أن أكبر وأقوى حزب في لبنان ليس حركة أمل أو حزب الكتائب أو القوات اللبنانية أو أو حزب الله أو غيرها، بل هو حزب الفساد الذي يضم معظم القوى السياسية اللبنانية والجزء الأكبر من القطاعين العام والخاص.

والفساد في لبنان ليس اختصاص فئة من الناس أو مجموعة محددة، بل أصبح، بكل أشكاله وأنواعه، منتشراً في لبنان بشكل واسع، وتحوّل إلى نظام بديل قابل للتطبيق أكثر من الدستور والقانون. وأصبح كل من يحاول الالتزام بحرفية النصوص الدستورية والقانونية ساذجاً، لا بل معرقلاً لاتفاق اللبنانيين بشأن تنظيم الدولة. فلا شك أن معظم الاستحقاقات الوطنية بما في ذلك انتخابات رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومات وإدارتها وتمرير الموازنات العامة ومراقبة الحكومة ومحاسبتها شهدت تجاوزات لنصوص الدستور والنصوص القانونية.

المشكلة إذاً ليست في اتفاق اللبنانيين بشأن تنظيم الدولة، بل في قيام الجمهورية اللبنانية. يمكن الاتفاق حول الدولة، وقد يتمكن الرئيس نواف سلام من تشكيل حكومة بعد إرضاء القوى السياسية المختلفة، لكن العرقلة ستظهر لاحقاً، ليس بسبب عدم الالتزام بالبيان الوزاري الذي سيكون إصلاحياً بامتياز، وسيتضمن خطوات تعطي انطباعاً بأن لبنان يتعافى من كل ما عانى منه في السابق، بل بسبب غياب الركيزة الأساسية المشتركة التي يفترض أن تبنى عليها الجمهورية.
فالحكومة هي المجموعة الحاكمة، وقد تكون منظمة كمجلس إدارة شركة أو مؤسسة عامة يرأسها رئيس الجمهورية ويديرها رئيس الحكومة. أما الجمهورية فهي أساس العقد الاجتماعي بين الناس والسلطة. ويفترض أن يكون الدستور هو تجسيد للعقد الاجتماعي. لكن، قبل الدستور والبحث في تعديله وتطويره، وقبل سنّ القوانين، لا بد من اتفاق اللبنانيين حول قيَم الجمهورية. كل الدساتير والقوانين قابلة للتهميش وللتجاوز إذا لم تكن هناك قيَم للجمهورية يتفق فعلاً اللبنانيون على الالتزام بها ويحرصون على إلزام الدولة بها.

بما أن نظام الحكم في لبنان يستند بالأساس إلى نظام الحكم في فرنسا، لا بد من الإشارة الى أن قيم الجمهورية الفرنسية هي الحرية والمساواة والأخوّة. لكن لا بد للبنانيين أن يتفقوا على قيم خاصة بجمهوريتهم. فيمكن مثلاً اقتراح التعدّدية والاحترام والإنسانية. تعدّدية الطوائف والمذاهب والاثنيات التي تشكل مجتمعاً غنيّاً بتنوّع المواطنين فيه وتنوّع الآراء والمواقف والتوجهات والعادات والتقاليد والمعتقدات والأشكال والممارسات. فهل يمكن أن يُتفق على هويّة وطنية تعددية؟ أم أن بعض الطوائف تتمسّك بالفوقية وتدّعي أنها أسست لبنان، ويفترض بالتالي أن تحظى بالحصة الأكبر من الدولة؟

أما الاحترام فيستدعي إتقان لعبة تبادل الأدوار. فهل يمكن تكليف الشيعي بأن يضع نفسه مكان الأرثوذوكسي ويتكلم باسمه؟ وهل يمكن تكليف الأرمني بأن يضع نفسه مكان العلوي؟ وهل يمكن تكليف الماروني بأن يضع نفسه مكان السني؟ وهل يمكن أن يكون العلماني مكان الكاثوليكي؟ وهل يمكن إجراء حوار صادق على هذا الأساس؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن تكون كل الطوائف والمذاهب والاثنيات مجموعة في المواطن النموذجي في الجمهورية اللبنانية، وهل يمكن أن تكون الهويّة تعددية وليست فئوية؟

الاحترام يستدعي أولاً احترام النفس واحترام الآخرين واحترام قيَم الجمهورية والالتزام بها حتى لو كانت معاكسة لمصالح شخصية أو فئوية. ولا يُفترض أن تنطلق القيم الإنسانية من تفسيرات ساذجة وشعارات وهمية، بل من قناعة منطقية راسخة لدى اللبنانيين بأن المصلحة الوطنية الجامعة هي في الحفاظ على حياة وسلامة وحقوق كل إنسان في عالم تتراجع فيه الإنسانية ويباد فيه البشر على شاشات التلفزيون ولا يحرك أحد ساكناً.
فهل حان الوقت، بعد 82 سنة من الفشل والمصائب والويلات والتشرذم والفساد، لانطلاق مسار بناء الجمهورية اللبنانية، أم أن ما سيتمخّض عنه الجبل سيكون فأراً؟

 

Exit mobile version