كتب محمد ناصر الدين في “الأخبار”:
«حين يموت من نحبّه يموت شيء فينا، هذه هي الحياة، سلسلة طويلة من الموت… يموت من نحبهم فتموت أعضاء من أجسادنا. لا ينتظر الإنسان موته بل يعيشه، يعيش موت الآخرين داخله وحين يصل إلى موته، يكون قد بتر الكثير من أجزائه ولم يبقَ منه إلّا القليل». غيّب الموت يوم الأحد الروائي والكاتب اللبناني إلياس خوري (1948 ــ 2024)، العاشق المتيّم بفلسطين، إذ لا يذكر صاحب «باب الشمس» إلا وتذكر فلسطين معه وفيه. هي التي تسللت إلى قلب كتابته منذ روايته الأولى «عن علاقات الدائرة» وحتى كتابه الأخير «النكبة المستمرة»: لم يكن من قبيل المصادفة أن يولد خوري في عام النكبة، عشية اليوم الذي سقطت فيه مدينة اللد (12 يوليو/تموز 1948)، كأن الكاتب الذي ولد في حيّ الأشرفية البيروتي لأسرة من الطبقة المتوسطة قد نذر نفسه لكتابة ملحمة فلسطين منذ أول وعيه بإنسانيته وإيمانه بمقدرة الأدب على مقاومة الوحشية والقباحة والاحتلال.
كتب خوري «أولاد الغيتو» عمله الروائي الأضخم (2016 ــ 2023) الذي يسترجع بطله «آدم ذنون» من منفاه الأميركي مجزرةَ اللدّ بعدما بدأ بكتابة رواية رمزية عن الشاعر وضاح اليمن يعارض فيها على طريقة الكلاسيكيات العربية رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا»، ليجد نفسه يكتب تلقائياً قصة الصراع الإنساني من أجل البقاء، ومقاومة المحو المنظّم لفلسطين، فيقلب الروائي ظهر المجنّ للمحتل الصهيوني الذي سوّق للعالم بأسره أنه سليل عذابات «الغيتو» في أوروبا الشرقية قبيل الحرب الثانية، بينما يستذكر بطل الرواية كيف وضع الصهاينة كل الناجين من حرب 1948 من اللد وحيفا ويافا وعكا والرملة والمدن الفلسطينية الأخرى في مساحات مقفلة مسيّجة بالأسلاك الشائكة والأبراج المنصوبة، وفي ظاهرة شبيهة بمتلازمة استوكهولم، وأطلقوا على تلك المساحات تسمية «الغيتو»، ما يسمح على حد مقولة إدوارد سعيد وفقاً للمنطق نفسه بجعل الفلسطينيين المضطهدين أشبه بــ«يهود اليهود».
كان مشروع خوري في عمله الفذّ كتابة النكبة كما حدثت بالفعل، فقد كان يجد تقصيراً في كتابتها حتى من رموز الرواية الفلسطينية كغسان كنفاني وإميل حبيبي وغيرهما، وتعرية الصهيونية التي نجحت تارة في التستر بثوب الكولونيالية التي كانت رائجة في الغرب في مطالع القرن العشرين، وطوراً بثوب الضحية التي تبحث لليهودي التائه منذ «السبي البابلي» عن «أرض الميعاد». لذلك كان من صميم مهمة الروائي أن يخلّص فلسطين من تهويمات المستشرقين وخرافات الوعود التوراتية، فصرّح في مناسبات عدة أنّ لا أرض مقدسة على الإطلاق، مُطلقاً جملته الإشكالية: «أنا لا أحب فلسطين، أنا أحبّ الفلسطينيين»، التي شرحها جيداً في إحدى مقابلاته الصحافية: «أولاً فلسطين ليست مقدسة وليس هناك شيء مقدّس ولا بلد مقدّس ولا أرض مقدّسة. فلسطين أرض الفلسطينيين. نحن نعيش في ظرف تاريخي صعب لأننا انحكمنا بهذا الجنون الاستعماري، المربوط بجنون ديني، كما الحروب الصليبية التي فيها جنون ديني… وإذا كانت فلسطين مقدسة فبدمِ الشهداء فقط لا غير».
لئن كانت «أولاد الغيتو» رواية النكبة بامتياز عند خوري، توزع فيها السرد عند البطل بين صيغة المتكلم في جزئها الأول وصيغة الغائب في الثاني وتداخلت قصص من التراث كقصة وضاح اليمن مع التغريبة الفلسطينية، إلا أن العمل الأقوى لخوري الذي طبع أجيالاً كاملة من القراء العرب يبقى «باب الشمس» (1998)، رواية الحب المتكئة على الذاكرة الفلسطينية بين الوطن والمنفى. عبر حكايتين غراميتين متوازيتين، حكاية يونس ونهيلة وحكاية خليل وشمس، يغوص خوري في تفاصيل سقوط القرى الفلسطينية مثل عين الزيتون ودير الأسد والبروة في الجليل، وتتبدى فيها كل موهبة صاحب «كأنها نائمة» في إدخال القارئ في حكايات لا تنتهي، تتولد الحكاية من الأخرى في تركيب أشبه بشبكة عنكبوتية مفتوحة يختلط أولها بآخرها.
تحولت «باب الشمس» إلى فيلم (2004) من إخراج المصري يسري نصر الله وفاز مترجمها إلى الإنكليزية همفري ديفيز بجائزة «بانيبال» الأدبية عام 2006، كما حازت «جائزة فلسطين الكبرى» وتُرجمت إلى أكثر من 15 لغة من بينها العبرية. إلا أن الجائزة الكبرى التي توّجها بها محبّو خوري كانت بعد مدة قريبة من صدورها: «توجّهَتْ مجموعة من الشباب الفلسطينيين من الضفة ومن الجليل إلى منطقة استيطانية شرقي القدس ووضعوا الخيام وأسّسوا قرية سمّوها «باب الشمس»، وأقاموا سهرات نار وقرؤوا من الرواية كاحتجاج على الاستيطان. جاء الصهاينة وهدموا القرية واعتقلوا الشباب الذين قاوموهم. للمرّة الأولى أرى أدباً يصير واقعاً، ما أعرفه أن الواقع يصير أدباً لكن هنا حدث العكس. هذه هي جائزة نوبل بالنسبة إليّ، جائزة كتابي أن يتحول إلى اسم قرية».
الفتى الذي لم تستهوه الأجواء اليمينية الكتائبية في قلب حي الأشرفية عند تشكّل وعيه في ستينيات القرن الماضي، سرعان ما وجد نفسه يتعاطف مع الفلسطينيين الذين كانت دولة «المكتب الثاني» تدّعي وقوفها إلى جانبهم بينما تطحن عظام المناضلين منهم في تحقيقاتها البوليسية الوحشية، كما حدث مع أحد الفدائيين في ثكنة الحلو. هذه الحادثة ومحاصرة الفلسطينيين عند كل الساحات المتاخمة لفلسطين دفعتا خوري إلى الالتحاق بمعسكراتهم في الأردن مناضلاً ومتابعاً لتغريبتهم السياسية والإنسانية عن كثب، لينتقل بعد أحداث «أيلول الأسود» عام 1970 إلى متابعة الدراسة في فرنسا ثم العودة إلى بيروت للعمل كباحث في «مركز الأبحاث الفلسطينية» وسكريتيراً لمجلة «شؤون فلسطينية» ما بين عامَي 1975 و1997 ويُصاب في الحرب الأهلية اللبنانية بجروح خطيرة. هذه الحرب أرّخ لها وصوّر أهوالها في روايات عدة مثل «الجبل الصغير» (1977) و«رحلة غاندي الصغير» (1989) و«رائحة الصابون» (2000) وكانت بمنزلة قتل فرويدي للمشروع الانعزالي اليميني وتفكيك أوهامه القائمة على تحويل الفدائي إلى غريب وإمكانية عزل لبنان المرتبط بالتاريخ والجغرافيا والإنسانية والتضامن مع القضية الفلسطينية. كما نهل خوري من الموزاييك الهائل لتاريخ المنطقة وجماعاتها الاثنية والقومية، فكانت «يالو» (2002) التي تتحدث عن مذابح السريان في سورية التي طمست فترة الحكم العثماني عند مطالع القرن العشرين بسبب هول ما ارتُكب بحق الأرمن، كما كانت قبلها «مجمع الأسرار» (1994) التي كتبها خوري عن السوريين الذين نزحوا إبان الثورة السورية الكبرى (1925) إلى منطقة الأشرفية وإشكالية الغريب وصناعته والتعامل معه في المدينة «الموقوفة» لأهلها وأوهامهم.
نذر نفسه لكتابة ملحمة فلسطين منذ أول وعيه بإنسانيته وإيمانه بمقدرة الأدب على مقاومة الوحشية والقباحة والاحتلال
كانت نتيجة انغماس خوري بالقضية والدوران في الفلك الفلسطيني التقاءه بأبرز شخصيتين فلسطينيتين ستطبعان حياته الأدبية والمهنية وصداقته الشخصية إلى الأبد: الشخصية الأولى إدوارد سعيد الذي سيمهّد له الطريق ليكون أستاذاً محاضراً في الأدب العربي والدراسات الشرق ــ أوسطية في نيويورك لمدة 14 عاماً ورسّخ في نفسه قوة التفوق الفلسطيني على العدو، ولا سيما في مجال الأدب، والبناء على هذا التفوق «قدرة الضحية أن ترى الآخَر بينما القامع والمحتل لا يستطيع أن يرى الضحية. في اللحظة التي يرى فيها الضحية في أدبه، يتفكك منطقه كله». أما الشخصية الثانية، فمحمود درويش الذي ربطته بخوري صداقة طويلة تكلّلت بالعمل المشترك في مجلة «الكرمل» التي كان صاحب «مملكة الغرباء» مديراً لتحريرها بين عامي 1981 و1982. كانت لالياس خوري مسيرة حافلة في العمل الصحافي والأدبي اللبناني أيضاً، إذ كان ضمن فريق تحرير مجلة «مواقف»، وأسهم في تحرير مجلة «الطريق». وبين عامي 1983 و1990، عمل مديراً لتحرير القسم الثقافي لجريدة «السفير» اللبنانية، إضافة إلى شغله منصب المدير الفني لـ «مسرح بيروت» بين عامَي 1992 و1998، وتوليه منصب رئيس تحرير الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة «النهار» اللبنانية منذ عام 1993 حتى عام 2009. كما تسلّم منذ عام 2011 وحتى مدة قريبة قبيل مرضه القلبي منصب رئيس تحرير مجلة «الدراسات الفلسطينية» التي تصدر من بيروت. حصل خوري على وسام جوقة الشرف الإسباني عام 2011، إضافة إلى جائزة اليونسكو للثقافة العربية في العام ذاته. أنجز كتباً عدة في القصة والنقد الأدبي والشعري إضافة إلى مسرحيات ثلاث. ظل الياس خوري ملتزماً بفلسطينيته حتى الرمق الأخير، وبلبنانيته في مواجهة السلطة الحاكمة، إذ عوّل كثيراً على الشباب المنتفضين في شوارع العاصمة اللبنانية عام 2019 بوجه مافيا الفساد والطائفية والمصارف، وبسوريته حيث اختلف معه كثيرون حول تعريفات الحرية والتحرر والتحرير، وتقييم «الثورة» التي انحاز إليها، ثم توجس هو نفسه من مذهبتها وعسكرتها وتدخل كل القوى الدولية فيها بعد مدة وجيزة من انطلاق موجة «الربيع العربي». رحل الياس خوري تاركاً خلفه جملته التي يمكنها أن تلخّص كل مسيرته الإنسانية والأدبية: «ما يستحق أن نموت من أجله هو ما نريد أن نعيشه».