كتب محمد حمية في “الجمهورية”:
وإن كانت المسودة التي سلمتّها السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون الى رئيس مجلس النواب نبيه بري مُثّقلة بفائض الشروط الإسرائيلية، غير أنّ مجرد عودة الأميركيين الى حلبة التفاوض بعد ثلاثة أسابيع من اختبار الميدان، منذ الزيارة الأخيرة للمبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين لبيروت، ناتج من أحد أمرين: فشل العملية البرية الإسرائيلية في الجنوب، وارتفاع زخم عمليات «حزب الله» خلال الأسبوعين الماضيين، ما ضغط على الداخل الإسرائيلي لإيجاد مخرج لإنهاء الحرب وفق شروط مقبولة لدى «تل أبيب»، مع بداية العدّ العكسي للمهلة الأميركية لإنهاء الحرب قبل تسلّم الرئيس الأميركي الجديد، أو «جسّ نبض» بري واختبار مدى مرونته إزاء الشروط الإسرائيلية، بعد أسبوع عنيف من الغارات على الضاحية والجنوب والبقاع، والتوسع الى مثلث الطيونة ـ الشياح ـ الغبيري، وما يمثله من بيئة حاضنة لحركة «أمل» برئاسة بري، وصولاً إلى ضرب أهداف في رأس النبع في العاصمة بيروت.
وإن لم تُعلن تفاصيل المسودة الأميركية رسمياً، وربما بقيت في إطارها الشفهي، فإنّ مصادر اطلعت على مضمونها، اكّدت انّها تتضمن وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701 وتراجع «حزب الله» الى ما وراء مجرى نهر الليطاني وانسحاب القوات الإسرائيلية من القرى التي احتلتها وعودة النازحين اللبنانيين مقابل عودة المستوطنين إلى الشمال، وتعزيز الجيش وقوات «اليونيفيل»، وإنشاء لجنة دولية أميركية ـ فرنسية ـ بريطانية مع دولة عربية لم تُحدّد، مهمّتها الإشراف المباشر على تطبيق القرار 1701 من كلا الطرفين، وتشمل صلاحياتها المرافق اللبنانية من مطار بيروت ومرفأي بيروت وطرابلس وجميع المعابر على الحدود اللبنانية ـ السورية، إضافة الى مَنح الطرفين حق الدفاع عن النفس، مع مَنح إسرائيل حرّية واسعة في تفسير هذا «الحق» يصل إلى التدخّل العسكري لمواجهة أي خرق للقرار من جانب «حزب الله» في جنوب الليطاني، وربما يمتد ليشمل كل الأراضي اللبنانية، إضافة إلى تكليف «اليونيفيل» والجيش اللبناني بمنع «حزب الله» من إعادة التسلّح.
وعلاوة على أنّ الأميركيين كما الإسرائيليين يريدون التفاوض تحت النار، حيث استبق الإسرائيليون وصول السفيرة الأميركية الى عين التينة بتركيز الغارات العنيفة على الضاحية وخصوصاً على مثلث الشياح ـ الطيونة ـ الغبيري، لتشديد الضغط على رئيس حركة «أمل»، لا شك في أنّ هذا السقف التفاوضي الأميركي ـ الإسرائيلي بُني على أساس أنّ «حزب الله» مأزوم سياسياً وأمنياً وعسكرياً، وأنّ الموقف الرسمي محاصر بنار المجازر الإسرائيلية وتوسع رقعة التدمير وبأزمة النزوح، ويجري دسّ سمّ الشروط الإسرائيلية في عسل العودة الى القرار 1701 وإمراره تحت غبار الغارات الإسرائيلية.
مصادر مطلعة على مسار التفاوض لفتت إلى أنّ بري وكذلك «حزب الله» يدرسان المسودة الأميركية على أن يسلّما الملاحظات اللبنانية خلال أيام، علماً أنّ مصادر أخرى تشير إلى أنّ رئيس المجلس أرسل رداً أولياً إلى الأميركيين. ورأت المصادر عبر «الجمهورية»، في بعض بنود الورقة الأميركية، إيجابية يُبنى عليها كأرضية انطلاق نحو الحل. وفي المقابل هناك بنود عبارة عن عروض استسلام، ولا سيما منها اللجنة الأميركية ـ الفرنسية ـ البريطانية التي هي شكل من أشكال الوصاية على لبنان ولو بنحو مقنّع، إضافة الى منح إسرائيل حق التدخّل العسكري لإزالة أي خرق من «حزب الله» للقرار 1701، أو أي محاولة لإعادة تسليحه، ما ينسف أرضية المفاوضات واتفاق بري ـ هوكشتاين أي القرار 1701، كونه السقف المقبول لبنانياً مع تعزيز قوات «اليونيفيل» والجيش وتمكينهما من ممارسة دورهما في مراقبة تنفيذ القرار عبر آليات معينة يتمّ الاتفاق عليها.
وإن كانت «تل أبيب» عادةً ما ترفع سقفها التفاوضي في بداية التفاوض إلى الحدّ الأعلى، للحصول على أعلى المكتسبات، فإنّ بعض مضمون الورقة لا يتناسب ووقائع الميدان، إذ لا يمكن اعتبار المقاومة مهزومة أو عاجزة أو منهكة. بل وعلى رغم من الضربات التي تلقّتها، فقد أعادت خلال الأسبوعين الماضيين جزءاً كبيراً من التوازن الصاروخي والناري مع الجيش الإسرائيلي، وأحبطت عمليته البرية وكبّدته خسائر فادحة، وبالتالي الميدان لا يزال يتحكّم بمسار المفاوضات، وباتت هناك معطيات ثابتة على حجم تداعيات الحرب في الداخل الإسرائيلي، والتحول الحاصل على مستوى القيادة العسكرية الإسرائيلية والرأي العام، بعد الفشل في تحقيق الأهداف المركزية للحرب. وما صدمة رئيس الأركان من كلام وزير الدفاع إلّا الدليل على ذلك.
أما تكليف «اليونيفيل» والجيش تحديداً إزالة سلاح الحزب إلى ما بعد حدود الليطاني، ومنعه من إعادة التسلح داخل منطقة الليطاني وخارجها، وخصوصاً عبر الحدود اللبنانية ـ السورية، فيعني وضع الجيش في مواجهة المقاومة، الأمر الذي لن يقبل به لبنان، ولا بوصاية مقنّعة عبر قوى متعددة الجنسيات تحت مسمّى «لجنة دولية للمراقبة». كما لن يوافق على منح إسرائيل حق التدخّل العسكري لفرض تطبيق القرار، بل يُعتبر ذلك عدواناً، ويحق للمقاومة الردّ عليه. لكن بري وجد مخرجاً لمعضلة اللجنة، بالعودة إلى لجنة مراقبة اتفاق نيسان 1996، لكن ليس معلوماً إذا كانت تلقى موافقة أميركية.
مصدر قانوني رافق جزءاً من مفاوضات العام 2006 يشير إلى أنّ الورقة الأميركية تعيدنا بالذاكرة الى تسلسل الأوراق والعروض التفاوضية آنذاك (البنود السبعة، ورقة روما والورقة الأميركية ـ الفرنسية)، وهذه الأوراق كانت تتحرّك وتتبدّل وفق مجريات الميدان. فكلما شعرت إسرائيل بألم ضربات «حزب الله»، كان الأميركي يضطر إلى التراجع عن سقف الشروط تدريجاً، الى درجة أنّه تمّ التسويق بأنّ لبنان وافق على الورقة الفرنسية ـ الأميركية، ثم عاد ورفضها، فارتفعت بعض الأصوات السياسية مستغربة ذلك، فاضطر بري آنذاك لعقد مؤتمر صحافي في اليوم التالي ليشرح سبب الرفض، وينعت تلك الورقة بأنّها «مشروع حرب أهلية».
يبدو أننا دخلنا في مخاضٍ تفاوضي موازٍ للحرب العسكرية، على أن تتأرجح الأوراق التفاوضية على صفيح الميدان، في انتظار ما سيحمله هوكشتاين في جعبته، حيث قِيل إنّه آتٍ ليتسلّم الردّ اللبناني النهائي على المسودة الأميركية، ويناقشه مع رئيس المجلس النيابي، ليبني كل طرف على الشيء مقتضاه.