المرحلة الجديدة
كتب محافظ بيروت السابق القاضي زياد شبيب في “النهار”:
في زمن التحولات الكبرى كالتي تجري في المنطقة، يسود الغموض حول المستقبل لدى كثيرين بسبب سقوط عناوين المرحلة المنتهية وعدم بروز عناوين جديدة واضحة أو عدم استقرار الأمر على مثل تلك العناوين، ويسود التخبّط على المستويين الفكري والسياسي. في مثل هذه الأحوال تستعر الصراعات السلمية أو غير السلمية، أما الصراع الحقيقي فيكون بين المراحل أكثر منه بين الأشخاص أو الجماعات.
في لبنان يظن كثيرون أن الصراع القائم على منصب رئاسة الجمهورية ومن خلاله على إعادة تكوين السلطة، هو تنافس بين أشخاص، أي بين مرشّحين يتنافسون على الرئاسة أو بين ناخبين كبار من أصحاب الكتل النيابية المقرّرة، أو حتى أنه صراع سياسي بين قوى سياسية تحاول الإتيان بمن يمثلها ويصون مصالحها عبر الرئاسة في مواقع الدولة ومواردها لتحافظ على وجودها السياسي الزبائني.
صحيح أن هذه المظاهر للعملية الرئاسية موجودة وقد يكون في الصراع القائم والمستمر منذ أكثر من سنتين على الرئاسة قليل من تلك العوامل، ولكن التنافس بين المرشحين بالمعنى المعروف في مثل هذه الحالات شبه معدوم، والسبب هو أن اللبنانيين ليسوا هم الناخبين، كما أن ممثليهم المفترضين أي النواب ليسوا هم أيضاً بناخبين حقيقيين وإن كانت أعدادهم وانتماءاتهم إلى كتل نيابية تؤخذ بالاعتبار في صناعة الرئيس.
الانتخاب أو الاختيار ينتهي في كل مرة إلى التعبير عن “المرحلة” على المستويين الداخلي والخارجي، وهو يتم وفق ما جرت العادة بطريقة أقرب إلى المبايعة منها إلى الانتخاب ويتم تشريع الاختيار في مجلس النواب وفق الإجراءات التي نصت عليها المادة 49 من الدستور.
يعتقد البعض أن الأحداث الكبرى التي حصلت أعادت لبنان إلى مطلع التسعينات أي إلى ما قبل تصفية القوات اللبنانية، وفي ذلك شيء من الصحة لأن الحزب المذكور كان أحد القوى العسكرية الثلاث الأساسية التي وافقت على اتفاق الطائف وكانت مسيطرة على الأرض في بيروت الكبرى، أي القوات اللبنانية وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي، وكان يُفترض أن تكون جزءاً من الطيف السياسي الحاكم منذ مطلع التسعينات ولكن انحراف مسار التطبيق على الطريقة السورية أبعد واحدة من القوى الثلاث المذكورة وأبقى على اثنتين. وما الحديث اليوم عن أحقيّة رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع بأن ينتخب رئيساً الآن أو في المستقبل إلا تعبير عن الحاجة إلى تصحيح انحراف التاريخ في تلك المرحلة.
يعتقد البعض الآخر أن الأحداث الأخيرة أعادت لبنان إلى مرحلة العام 2005 أي إلى مرحلة التخلص من الهيمنة التي أقامها النظام السوري على لبنان عبر نظام لبناني تمّ تركيبه لحكم لبنان في ظل تلك الهيمنة. ويعتقد البعض أيضاً بأن الفرصة الضائعة العام 2019 بإنجاز ثورة حقيقية على الجماعة الحاكمة وإسقاط ما سمّي “المنظومة”، قد أصبح تحقيقها اليوم ممكناً.
قد يصح ذلك أو لا يصح ولكن الحقيقة أن لبنان يشهد نهاية مرحلة ودخول مرحلة جديدة وليس استعادة مراحل سابقة. والمرحلة الجديدة هي انتهاء المفاعيل الواقعية لاتفاق القاهرة للعام 1969، أي استعادة الدولة وجيشها وحدانية الدور، وانتهاء تعليق اتفاق الطائف، أي وجوب تطبيق الإصلاحات الكبرى التي سبقت الإشارة إليها في مقالات سابقة.
لبنان والمنطقة دخلا هذه المرحلة الجديدة، والرئاسة ستكون حتماً تعبيراً عنها وهذا سبب اختيار قائد الجيش للرئاسة. أما منع ذلك من الحصول لمحاولة تجنب الخسائر السياسية فمن شأنه أن يؤدي بطبيعة الحال إلى كارثة كبرى كتلك التي تلت الفراغ الرئاسي العام 1988.