المرحلة الأخطر ما بعد الانتخابات
وأخيراً سلّم الجميع بحتمية حصول الانتخابات النيابية. تطلّبت هذه القناعة الكثير من الوقت والأهم العديد من الاشارات والرسائل الحازمة، والتي كان فحواها انّ العواقب ستكون قاسية وأن العواصم الكبرى جدية جداً في قرارها.
ولكن هنالك من يعتقد بأن ثمة معطى إضافياً ساهم في ترسيخ هذه القناعة لدى اطياف الطبقة السياسية الحاكمة، وهي تتعلق بالصراعات التي مزّقت القوى والمجموعات التغييرية ما جعلها تفشل في بناء لوائح موحّدة قادرة على إحداث الانقلاب المطلوب والمأمول في توازنات المجلس النيابي المقبل كما نادى وما يزال اكثر من 60 % من اللبنانيين، وهي النسبة التي أظهرتها مختلف استطلاعات الرأي. فمن جهة لم تنجح الرعاية الدولية في التضييق من هوّة الصراعات التي سادت بين «التغييريين» والمعارضين وحتى داخل كل فريق منهما، وبالتالي النجاح في إنجاز لوائح موحدة.
ومن جهة ثانية أدّت هذه الصراعات الى تراجع ثقة الشارع من جهة والشخصيات والمتموّلة التي كانت متلهفة لتمويل هذه المعركة ولكنها وضعت شرطا لم يتحقق وهو اقتناعها بوجود جدية واسماء وازنة قادرة على تشكيل بديل فعلي. لا بل على العكس، بدت الامور تعمل وفق الذهنية نفسها السائدة لدى اطراف الطبقة السياسية الحالية.
ومن جهة ثالثة نجحت اطراف الطبقة السياسية في التلاعب ببعض هذه المجموعات واختراق بعضها الآخر ودَفعِها للخطأ القاتل أي تعدد اللوائح ما سيؤدي الى تشتيت الاصوات، اضافة الى القيام بحملة اعلامية تقوم على اساس ان شيئاً لن يتغير على مستوى نتائج الانتخابات، والهدف إطفاء شعلة الحماس التي بدأت في نفوس اللبنانيين يوم 17 تشرين 2019.
وعلى الرغم من إدراك العواصم الغربية المعنية بكل هذا الواقع، الّا انها ترى بأنها حققت مسألة اساسية من تأمين حصول الانتخابات وتتلخّص بالحفاظ على مبدأ احترام المهل الدستورية للاستحقاقات وتالياً المحافظة على آلية عمل النظام الديموقراطي ودينامية مبدأ تداول السلطة الذي كان تهدد اكثر من مرة في السابق، ليس فقط على مستوى الاستحقاق النيابي بل خصوصاً على مستوى الاستحقاق الرئاسي.
ثمّة مكسب ثانٍ ستظهره هذه الانتخابات النيابية ويتعلّق هذه المرة بالحجم الشعبي الحقيقي للقوى السياسية. صحيح أنّ هنالك مساوئ كثيرة لهذا القانون الانتخابي ظهرت من خلال تطبيقه وتستوجب إصلاحها وبشكل واسع، الا أنّ الأصوات التفضيلية ستظهر بوضوح أن المزاج الشعبي في مكان والقوى السياسية في مكان آخر، خصوصاً على مستوى الساحتين المسيحية والسنّية، ما سيجعلها عاجزة عن قيادة ساحتها أيّاً يكن عدد المقاعد الذي ستصل اليه. ما سيضع برنامج الاصلاحات الاقتصادية كما السياسية في دائرة الخطر الكامل.
في الخلاصة بَدا بوضوح أنّ الظروف الفعلية لنقل لبنان الى مرحلة بدء بناء دولة جديدة جدية لم تنضج بعد. فالمنظومة السياسية ما تزال قوية ومتماسكة وقادرة على التلاعب بالشارع اللبناني على مختلف تلاوينه، والاهم انّ البدائل بالمعنى الفعلي للكلمة ليست جاهزة بعد على الرغم من حَدثين كبيرين لا بل هائلين، وهما الانفجار الشعبي في 17 تشرين والانفجار المدمّر الهائل في مرفأ بيروت.
لكن هذا لن يعني أنه ستكون هنالك عودة الى الوراء، لا بل على العكس سيتم اللجوء الى مسار آخر. مساء 15 أيار ستقفل صناديق الاقتراع، وفي اليوم التالي ستبدأ رحلة البحث عن «لبنان الجديد» ومن ضمنها رحلة البحث عن اسم الرئيس المقبل للجمهورية.
والمقصود هنا أن الرئيس المقبل للجمهورية لا بد أن يأتي انسجاماً مع مشروع اعادة بناء لبنان الجديد.
اولاً، طالما أن مجلس النواب المقبل لن يحمل في توازناته المعطيات الجدية لإحداث التغيير المطلوب انطلاقاً من داخل المؤسسات اللبنانية، فلا بد ان تكون قد تولّدت قناعة دولية بأن اعادة اصلاح مؤسسات الدولة اللبنانية ستأتي من الخارج الى الداخل وتحت رعاية مؤسسات الامم المتحدة. وهذا المشروع ليس جديداً بل انه أُشبع درساً في المرحلة السابقة وجرى التداول به ولو بخَفر من بعض المحطات.
والمقصود هنا، أنّ الافلاس الكامل للبلد واستمرار انزلاقه وسط تفاقم الازمة المعيشية سيضع لبنان حكماً تحت وصاية المؤسسات المالية الدولية وفي طليعتها صندوق النقد الدولي الذي اتخذ له مقراً منذ مدة غير بعيدة في احدى ضواحي بيروت، والذي يتضمن مكاتب كثيرة على امتداد طابقين فسيحين وهو ما يعني بأن حركته ستكون ناشطة. والمقصود هنا ان يواكب متخصصون من هذه المؤسسة ورشة اعادة بناء بعض الوزارات الاساسية وفق آلية علمية شفافة. لكن في المقابل على صندوق النقد اعادة النظر في البرنامج القاسي الذي وضعه لمساعدة لبنان، والذي سيؤدي في حال تطبيقه كما هو الى دفع لبنان باتجاه الفوضى الشاملة نظراً لإجراءاته القاسية. فلبنان قد يكون بحاجة الى تقديمات وحوافز ومساعدات الى جانب اعادة بناء واصلاح مؤسسات الدولة اللبنانية.
ثانياً، سيجري التمهيد لذلك بمؤتمر دولي مخصّص للازمة اللبنانية، حيث بات معلوماً انه سيحصل في فرنسا، وهو ما كانت أبلغته باريس الى «حزب الله» في مرحلة سابقة. وهذا المؤتمر الحواري الذي سيحضره الاطراف اللبنانيون برعاية فرنسية سيؤدي الى ادخال تعديلات دستورية ولكن على مستوى تصحيح الخلل الذي ظهر خلال ممارسة السلطة، وليس ابدا على مستوى اعادة البحث في جوهر النظام اللبناني وتوازناته. ومن هنا يجب تفسير كلام البطريرك الماروني حول مؤتمر طائف جديد اي شكل المؤتمر وليس ابداً الذهاب الى دستور جديد او «الجمهورية الثالثة».
ثالثاً، لا بد ان يكون الرئيس المقبل للجمهورية نتيجة منطقية لهذا المسار، وليس انعكاسا لنتائج الانتخابات النيابية كما يتوهّم البعض للاسباب التي ذكرناها سابقاً. ومن هنا جرى خلال الاسابيع الماضية تناقل فكرة وجوب عدم التأخر في انتخاب رئيس جديد للجمهورية لأن الوضع الخطير للبلد لا يحتمل ابدا اي تأخير او تلاعب، وجرى تداول آراء ما بين باريس وبيروت والضاحية الجنوبية حول امكانية العودة الى آلية ما قبل العام 1988، اي ان تحصل الانتخابات الرئاسية وفق المهلة الدستورية اي قبل شهر او شهرين من انتهاء ولاية رئيس الجمهورية. لكن ثمة عوائق قد تظهر، خصوصا لناحية تأثير الرئيس ميشال عون الذي سيضغط لصالح إيصال النائب جبران باسيل. لذلك فإنّ الدخول في فراغ رئاسي احتمال وارد، ولكن لفترة محدودة لا تتجاوز الشهرين في حال تطلّب الوضع ذلك.
رابعاً، من المفترض ان تشكل التطورات الاقليمية عاملا مساعداً في هذا الاتجاه خصوصا بعد التفاهم الاميركي – الايراني، وأفول مرحلة الضغط الدولي على ايران، فتحرير الارصدة المالية لإيران والاقرار بنفوذها السياسي خصوصا في العراق، سيخفف الضغط على لبنان ويدفع بالمسار في اتجاه اكثر هدوءاً، خصوصاً ان خط التماس مع المحاور العربية الجديدة سيكون في العراق وليس في لبنان.
خامساً، ما من شك ان ثمة مخاطر تستوجب التروي والتعاطي معها بشيء من الحكمة لطالما افتقدناها في لبنان. والمقصود هنا اعادة تنظيم خارطة محاور جديدة في المنطقة، والاخطر ما ظهر في مؤتمر النقب حيث جرى الاقرار بقيادة اسرائيل، والاهم تغييب الفلسطينيين عن المشاركة في المؤتمر، ولهذا معناه العميق والخطير.
لذلك فإنّ انفجار العنف في الاراضي الفلسطينية المحتلة له ما يبرره، خصوصا إزاء خطر شطبهم بالكامل من المعادلة. وعلينا ان نتذكر دائما الوجود الفلسطيني في لبنان وتأثره المباشر بالداخل الفلسطيني.