أسفرت مناقشات النواب بشأن مشروع فرض قيود على السحوبات النقدية والتحويلات الذي سمّته «كابيتال كونترول»، عن نتائج مخيّبة جداً. فالأمر لا يقتصر على أن المشروع يأتي بعد ثلاث سنوات على الأزمة، بل تقرّر «تنويم» المشروع ربطاً بمشاريع أخرى. عملياً، السلطة لا تمارس إلا الكذب بشأن مضمون المشروع وأهدافه. فالمسوّدات التي نوقشت هي مجرّد جزء بسيط من القيود المطلوبة، فيما باتت هناك شكوك واسعة بأن السلطة سعت إلى إقراره أصلاً
يكفي الاستماع إلى تصريحات النواب عقب جلسات مناقشة مشروع قانون تقييد السحوبات النقدية والتحويلات إلى الخارج (الكابيتال كونترول)، بشأن الغاية من إقرار هذا القانون لمعرفة المكتوب من عنوانه: منح مصرف لبنان والمصارف عفواً مالياً عمّا مضى، وتبرئة ذمّتهم من الجرائم المالية المتراكمة والمستمرّة لغاية اليوم. معدّو المشروع هم المشتبه فيهم، من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورعاياته السياسية حكومياً وتشريعياً، إلى المصارف. يكفي أن يكون رئيس مجلس النواب نبيه برّي قد أشهر الفيتو بوجه القانون، ثم الموافقة عليه بعد سنتين، للتثبّت من أنه لن يخدم سوى مصالح هؤلاء. لذا، يصبح النقاش في موادّه المنحازة لزوم ما لا يلزم.
ما يُدرس في البرلمان اليوم ليس «كابيتال كونترول» ولا يمتّ إلى هذا التعريف بصلة. وما يُشاع عن الحرص على الحفاظ على أموال المودعين ليس سوى «كذبة» للتلاعب بمشاعر من سُرقت أموالهم لتمرير قانون يُبرئ ذمّة السارقين. بحسب النائب جميل السيد، المشروع الموضوع قيد النقاش «هو لوضع ضوابط على أموال المودعين التي سبق أن أهدرت على الدعم ولتهريب أموال النافذين. الآن يريدون استكمال السطو على ما تبقى، وإعطاء شرعية لتعاميم سلامة ومنصّته». وراء شعار «الحفاظ على أموال المودعين» الكاذب، «يدور نقاش حول مشروع حكومي غامض ومليء بالثغرات ومخالف للقوانين، ويبقي على الاستنسابية. لا بل أكثر من ذلك، ثمة مجموعة استثناءات على حركة الأموال تسمح باستثناء كل ما يدخل ضمن استيراد الأغذية والقمح والمحروقات والأدوية والنفط ومدفوعات الحكومة وتحويلاتها، ومدفوعات مصرف لبنان وتحويلاته، والمواد الأولية اللازمة للصناعة والحاجات الأخرى التي تراها اللجنة ضرورية. وهذه اللجنة يديرها وزراء وحاكم مصرف لبنان…». الأمر بات واضحاً، وهو إبقاء السلطة بيد سلامة لإنفاق ما تبقى من أموال المودعين.
فالمشروع يميّز بشكل استنسابي بين الطالب الذي يدرُس في لبنان والذي لن يستفيد من أي دولار حتى لو كان قسط جامعته أو مدرسته «فريش»، وبين الطالب الذي يتابع علومه في الخارج. أيضاً بين المريض الذي يُعالج في المستشفيات اللبنانية، والمريض الذي يمكنه تلقي علاجه في الخارج. رغم ذلك، اتفق النواب على ما أعلنه نائب رئيس مجلس النواب الياس بوصعب الاثنين الماضي، على أن «يوضع قانون الكابيتال كونترول على جنب بعد إقراره، لحين استكمال إقرار القوانين المتبقية المتعلّقة بخطة التعافي». وفي هذا الكلام مخالفة للنظام الداخلي، وفق السيد. فعندما تنتهي اللجان من مناقشة القانون وترفع تقريرها، لا يعود من صلاحيتها التصرّف به، بل يصبح ملك الهيئة العامة. إنما في حال كان هناك قانون يؤثّر على قانون آخر، يمكن عندها الطلب من الحكومة إرساله لمناقشتهما معاً: «ما في شي بينحطّ عجنب».
ما سبق، هو عيّنة عن المسار الذي يسلكه مشروع «الكابيتال كونترول» في لبنان رغم أن الدول تطبّق قانوناً كهذا بشكل استثنائي، من أجل إعادة التوازن إلى ميزان مدفوعاتها وحماية ما تبقى من دولارات. أما السلطة في لبنان، فتسعى إلى إقراره بعنوان «إنقاذ القطاع المصرفي وإعادة الثقة إليه». وهذا القطاع نفّذ بالتعاون مع مصرف لبنان سرقة العصر، وهو يطلب من السلطة التشريعية حماية، وتفادي إعلان الإفلاس بحجّة الكذبة نفسها: حماية أموال المودعين.
ويقول المحامي كريم ضاهر إن الغاية من المشروع المطروح الوصول إلى «نوع من إبراء ذمّة للمصارف ومصرف لبنان. أما الحديث عن عدم تطيير أموال المودعين فهو بدعة طالما أن لا قيود على الأموال الجديدة أي الدولارات الفريش المودعة حديثاً والعائدة لمودعين جدد، بينما ستطبق القيود فقط على أموال المودعين القدامى غير الموجودة أصلاً. وهو ما يحصل حالياً. إذاً لماذا يقرّون القانون؟».
لا علاج للمصارف سوى بإعادة الهيكلة التي كان يجب أن تنفّذ منذ أول تشرين الثاني 2019
ويشير ضاهر إلى ثلاثة أخطاء متعمّدة يتم الترويج لها إعلامياً:
1- القول أنه في ظل غياب الكابيتال كونترول ستظل الاستنسابية مستمرّة، لأن لا قانون يمنع التحويلات المالية إلى الخارج. لكن الحقيقة أنه بتاريخ 9/4/2020 أصدر مصرف لبنان تعاميم تحدّد الشروط والقيود لجهة السحوبات والتحاويل وآلية العمل بها، بموازاة خلق أسعار صرف متعدّدة تعمل على تذويب الودائع. وفي حال استنساب أيّ مصرف ومخالفته التعاميم، يمكن للبنك المركزي، عبر لجنة الرقابة أو هيئة التحقيق الخاصة، اتخاذ تدابير بحقه. وهو أمر حصل مع «فدرال بنك» و«بنك البركة» اللذين عيّنت عليهما الهيئة المصرفية العليا مدير مؤقّت، وقد تصل الإجراءات بحقّهما إلى تصفيتهما أو وضع اليد عليهما. إذاً، فلتقم لجنة الرقابة وهيئة التحقيق بعملهما لوقف الاستنسابية.
2- الإشاعة بأن عدم إقرار القانون بسرعة سيؤدي إلى تطيير أموال المودعين بسبب الدعاوى التي يقيمها كبار المودعين. في الواقع، لا وجود لدعاوى في لبنان وصلت إلى خواتيمها منذ سنتين إلى اليوم، فالقضاء مطواع ومتفهّم للمصارف لا للمودعين. أما الدعاوى المرفوعة في الخارج، فلم يكتمل منها بصورة نهائية سوى اثنتين. ووفق دراسات جارية الآن، ثبُت أن المادة التي تعلّق الدعاوى القضائية بحقّ المصارف لا تعترف بها الدول، بل يمكنها في أي وقت الحجز على أصول المصارف في الخارج.
3- اللغط الثالث يكمن بربط الكابيتال كونترول مع انهيار القطاع المصرفي المنهار أصلاً والذي لن يسعفه لا هذا القانون ولا غيره. إذ لا علاج للمصارف سوى بإعادة الهيكلة التي كان يجب أن تنفّذ منذ أول تشرين الثاني 2019 عندما أقفلت المصارف لمدّة أسبوعين من دون وجه حق.