الـغـبـي (أو أكـثـر) الـذي يـريـد إراحـة الـعـدوّ مـن عـمـلـيـات الـمـقـاومـة؟
هل قرّرت حكومة لبنان سياسة خارجية خاصة حيال ما يجري في الجنوب وربطاً بما يجري في فلسطين؟
جدّية السؤال، على هزالته بالنسبة إلى كثيرين، مردّها إلى التصريحات المقلقة لوزير الخارجية عبدالله بوحبيب، والاتصالات غير المعلنة التي يجريها وآخرين في السلطة مع الجهات الغربية.
وهي مواقف تستند إلى «تهديد» الولايات المتحدة وأوروبا بأن لبنان سيُدمَّر كلياً إذا دخل حزب الله الحرب لمساعدة حركة حماس في غزة.
بعد أسبوعين على بدء الحرب في جنوب فلسطين، وتصاعد الاحتكاك العسكري على الحدود مع لبنان، استسلمت الدبلوماسية الغربية إزاء مهمة استطلاع موقف حزب الله.
لم يبقَ موفد أو صديق أو وسيط أو سياسي أو باحث أو إعلامي أو رجل أعمال إلا وجرّب حظه للحصول على جواب شافٍ من الحزب عما يفكر فيه للفترة المقبلة…
إلى درجة دفعت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا إلى القول قبل مغادرتها بيروت: «ستكون توصيتي للرئيس إيمانويل ماكرون بأن الحرب قائمة بين لبنان وإسرائيل.
صمت حزب الله لا يمنع من الاستنتاج بأنه يتجهّز لحرب قاسية. والخط الأحمر عنده هو بالضبط ما تريد حكومة إسرائيل تجاوزه في حربها ضد حماس».
الخلاصة الفرنسية نفسها تبادلها دبلوماسيون غربيون وعرب في بيروت يدركون بالتجربة صعوبة سبر أغوار الحزب، ولا سيما أن الجميع يدرك أن التواصل مع الحزب لم يعد مجدياً في ظل إصراره على «إستراتيجية الغموض» التي زادتها مؤشرات رصدتها الأجهزة الأمنية الغربية المحتارة في تفسير ما يقوم به.
فهم يوافقون الجهات الإسرائيلية على أن الحزب ليس في حالة استنفار قصوى، وأن مؤسساته تعمل بشكل طبيعي، وأن الجهوزية واضحة فقط عند الحافة الحدودية.
وهناك من بينهم من يطمئن نفسه بأن الحزب لا يرغب بتعديل قواعد الاشتباك، ويريد حصر المواجهة في مزارع شبعا، وأن الانتقال إلى مستوى أعلى من التصعيد أتى من جانب فصائل فلسطينية تنفّذ عمليات عبر الحدود تضامناً مع غزة.
وفي هذه النقطة، تزداد حيرة الغربيين، إذ تفيدهم قوات اليونيفل بأن أحداً لا يمكنه القيام بعمل عسكري في الجنوب من دون علم حزب الله الذي يقول لهم إنه ليس حارساً للحدود.
كذلك يدرك هؤلاء أن لا قدرة للجيش اللبناني على قمع المجموعات الفلسطينية، وتبريراته في ذلك أن النقاط التي يتحرك فيها المقاتلون مغلقة بفعل إمساك حزب الله بها.
في كل الحالات، يبدو البحث عن أجوبة في هذا المجال تمريناً دائماً للدبلوماسية الغربية وللأجهزة الأمنية، فيما إسرائيل، وحدها، تعرف أكثر من الجميع ما يريده حزب الله.
وتدرك، تحديداً، أن الحزب لا يمكنه الصمت إزاء حرب حاسمة تُشن ضد المقاومة في فلسطين.
وهي لا توفد وسطاء ولا تبعث برسائل للحصول على توضيحات من الحزب، بل تجرّب حظها في احتمال أن يرتدع حزب الله ويدير ظهره لما يجري في جنوب فلسطين.
ولذلك، الرهان الأساسي للعدو هو على الدور الأميركي. أما الآخرون فليسوا سوى سعاة بريد يوصلون رسائل من دون اجتهادات.
وإسرائيل التي لا تحتاج إلى من يخبرها عن «إستراتيجية الغموض» كانت تريد من الولايات المتحدة، ليس لفت انتباه الحزب أو تحذيره، بل أن تمارس تهديداً مباشراً وموجعاً وفعّالاً على الحزب.
ولذلك تدرّج الأمر من بيانات ورسائل تولّت نقلها السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا ومندوبون في الأمم المتحدة وعبر الدبلوماسية الفرنسية التي حملت رسائل كبيرة.
في مرحلة لاحقة، تحديداً عندما لم يسمع العدو سوى الصمت رداً على رسائله، سارع إلى الاستنجاد بالأميركيين طالباً منهم القيام بخطوة عملانية، فكان القرار بإرسال قطع عسكرية بحرية إلى المتوسط، ولم يخف الأميركيون أن وظيفة هذه الأسلحة هي ردع حزب الله، قبل أن يخرج الرئيس الأميركي جو بايدن بنفسه ليحذّر الحزب وإيران من القيام بأي شيء.
انتظر الأميركيون ومعهم إسرائيل رد فعل المقاومة في لبنان على هذه الرسائل. ولم يتأخر الوقت حتى ظهرت علامات الجواب.
رفع مستوى العمليات ضد مواقع العدو عند الحافة الحدودية، ورفع مستوى الخطاب السياسي الذي تولّته إيران مباشرة على لسان رئيس دبلوماسيتها حسين أمير عبداللهيان بعد اجتماعه مع قيادة حزب الله في لبنان.
وبعد وقت قصير، وإزاء رفع العدو الأميركي سقف تهديداته عبر القنوات الدبلوماسية، جاء الرد على شكل عمليات عسكرية مباشرة ضد القواعد العسكرية الأميركية في سوريا والعراق، ومناورات صامتة في بحر العرب والبحر الأحمر.
والتقاط العدو إشارات استخباراتية إلى احتمال حصول عمليات ضد مصالح إسرائيل أو أميركا في أكثر من دولة في المنطقة.
كان لهذه الردود أثرها الكبير على الموقف الإسرائيلي الذي بات مضطراً لاتباع سياسة مختلفة في الميدان.
فلجأ إلى إجراءات عسكرية غير مسبوقة، وأعطى قادة وحداته في الميدان حرية التصرف إزاء عمليات حزب الله، والقيام بضربات من دون الحذر المعتاد بعدم إصابة مقاومين.
فيما تستمر المساعي لتطويق الأمر، ويبحث جميع أصدقاء إسرائيل في الطريق الأفضل لاحتواء الموقف على الجبهة الشمالية.
وسط هذا البحر من الرسائل النارية والدبلوماسية، ثمة من أخرج أرنباً من جيبه، فكان اقتراح وزير الخارجية عبدالله بوحبيب بأن تقوم الولايات المتحدة وأوروبا باتصالات مع إسرائيل لدفعها إلى خطوات من شأنها احتواء الموقف على الجبهة الشمالية.
وبخلاف ما يقوله بوحبيب من أنه وزير للخارجية وليس مقاوماً يحمل السلاح، فقد بادر إلى إطلاق مواقف تنمّ عن أمر خطير للغاية، سواء كان هو صاحب الفكرة أو منفّذاً لها.
علماً أنه هو من بادر بالتواصل مع قنوات محلية وعربية ودولية لترتيب مقابلات معه، ليقول: أقنعوا إسرائيل بإعلان وقف النار، ما يساعدنا في إقناع حزب الله بوقف نشاطه العسكري عند الحدود.
فجأة صار بوحبيب ساعياً إلى توفير ما تريده إسرائيل بشدة في هذه اللحظات على الجبهة الشمالية، حتى لو ادّعى لاحقاً بأنه يقصد وقفاً لإطلاق النار في فلسطين.
وهو لم يكتف بالتفكير في أمر خطير كهذا، بل أعلن أن موقفه جاء بعد تنسيق مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ومسؤولين آخرين من القوى السياسية البارزة.
وبعيداً عن حيرة الخبراء والناس حول من هو الأقل صدقاً، نفى رئيس الحكومة أن يكون هو خلف «مبادرة» وزير خارجيته، بل أكثر من ذلك…
فقد نُقل عنه قوله: «لست فؤاد السنيورة، وأريد تنسيق كل خطوة مع المقاومة، حتى ولو كنت أكثر ميلاً إلى عدم الذهاب إلى الحرب».
كذلك تبيّن أن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ليس في أجواء ما يقوم به بوحبيب، بل يجري الحديث عن توتر في العلاقة بينهما منذ أكثر من أسبوع.
علماً أن فريق باسيل يشكو من رفض بوحبيب، منذ أشهر، التنسيق مع الفريق الذي سمّاه إلى المنصب الذي يحتلّه.
فيما الفرق الدبلوماسية المعنية تشير إلى أن جدول أعمال بوحبيب اليومي لا يخلو من اتصال أو محادثة كتابية أو لقاء مع السفيرة الأميركية.
كان على بوحبيب – طالما أنه يقول بأنه دبلوماسي مُحلّف – أن يختار كلماته بدقّة، فلا يساوي بين شهداء لبنان وقتلى العدو، وأن لا يتحدث عن المقاومة في لبنان وكأنها حالة غريبة مفروضة على اللبنانيين.
بالنتيجة، قائمة أخطاء وزير الخارجية باتت طويلة جداً منذ معركة التجديد لولاية القوات الدولية في الجنوب.
وهو إذ يبرّر ذلك، في مجالسه العلنية، بأن أحداً لا يحترم القرار 1701، فقد لا يكون أحد بحاجة إلى وثائق ويكيليكس لمعرفة ما يُقال في الجلسات المغلقة.