العالَم كلّه لتخليص شيعة لبنان.. من ذاكرتهم!
كتب عبد الغني طليس في “اللواء”:
أجيال من الشيعة اللبنانيين، مطلوبٌ أن تنسى ذاكرتها. المقصود الذاكرة القريبة لاعتداءات إسرائيل، على الأقل منذ اجتياح ١٩٨٢ حتى اليوم. والذاكرة البعيدة التي تصل إلى الإمام الحسين وكربلاء.
في الذاكرة القريبة، مقاومةُ أهل الجنوب وشيعة البقاع – الهرمل، للجيش الإسرائيلي الغازي بعد ١٩٨٢ بما تيسّر من «القوة» التي بدأت من اللحم العاري وانتهت بعبوات وصواريخ أذلّت العدوّ بكل جبروته وأجبرته على الانسحاب عام ٢٠٠٠ (وقال الكارهون إنها انسحبت تنفيذاً لقرارات الأمم المتحدة). ثمّ المرحلة التي تلَتها حتى ٢٠٢٤ وكانت إسرائيل تحسب حساباً لكل قول وفِعل تقوم به المقاومة لأكثر من عقدَين. هذه المرحلة أدخلَت في الأذهان عند الشيعة شعورا بالمِنعة والعنفوان، تَواءَمَ مع مقولة نصرالله «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت» واتّحَدَ بها، وكانت البراهين الواقعية تتالى أمامه.. وآخِرها الجدل الساخن بين فئات اليهود من المفكّرين إلى العامة، حول إمكان بقاء إسرائيل أو زوالها بعد «طوفان الأقصى» التي كانت عملية خرقت كل الحدود، فسارع نتنياهو إلى أميركا وأوروبا طلباً للعون والمساندة لأن المطروح لدى شعب إسرائيل بات نبقى أم لا!
ولد في ربع القرن الأخير، جيل كامل من الشيعة في لبنان، يضاف إلى جيل قبله، لم يعرف إلّا أنه مُقتدِر وجدير بحمل أمانة حفظ الأرض والبشر، وبقوة المقاومة لا بالقرارات الدولية.
حرب ٢٠٣٤ – ٢٠٢٥ غيّرت المعادلة، بمعادلة إسرائيلية جديدة – قديمة في العقل اليهودي هي التدمير والخسارات التي لا طاقة على احتمالها. أُصيب الجنوب والبقاع (بعد غزة) في الصميم بهذه المعادلة الإجرامية المدفوعة بنزعة البقاء وتجديد السيطرة على الموقف عند إسرائيل، ناهيك عن إصابة المقاومة نفسِها في صميم الصميم بخسارة نصرالله نفسه. ويبدو أن استعادة قوة المقاومة وحركتها كما كانت، باتت صعبةً (ولو أن البعض فيها يقول إنها تحقّقت كليّاً) ويريد العالَم اليوم وضع الشيعة أمام المشهدية السوداء: بين غزة ولبنان انتهت المقاومات. سوريا سقطت. العراق شُغِل بذاته ولذاته حسَب مرجعيات دينية. اليمن محاصر، وإيران تترقّب دورها. هو واقع صحيح وغير صحيح في آن معاً، وجديد على المقاومة وعلى جيلين من الجماعة الشيعية عموماً. أكثر من ذلك: «الصورة»التي تبدّلت في الصراع مع إسرائيل، حمّسَت فئات في الداخل اللبناني، فراحت بالتحليل والشماتة تدعو الشيعة إلى نسيان ذاكرتهم القريبة التي عاشت تجارب انتصار على إسرائيل، بالعين المجرّدة وبالمتابعة الميدانية، فرضت يومئذٍ قلقاً فظيعاً في جيش إسرائيل عاشه على الحدود من ردود المقاومة طوال سنوات. وقد واكب المواطن الجنوبي زراعةَ أرضه الملاصقة، وممارسةَ حياته الطبيعية بلا تهديد لا بَري ولا جوّي، وبناءَ القصور عند الحافة الأمامية، وجعَلَ المشاريع السياحية والإعمارية قاعدةً.. مستنداً إلى قوة موقف المقاومة ووضعيتها وجهوزيتها.
حرب ٢٠٢٥ شرّدَت الجنوبيين من «بلادهم» داخل الوطن بعدما عاث الطيران الحربي فساداً فيها، وضربَت البقاع في أشنع عمليات توحُّش. انتهت الحرب بالقرار ١٧٠١. عاد أغلبُ الجنوبيين بالقوة المدنية البشرية إلى قراهم وبلداتهم، لكنّ بعضها دمّرته إسرائيل عن بكرة أبيه ومنعت بعض أهل الأرض والبيوت من العودة واحتفظت بنقاط مُشرِفة لممارسة الإرهاب على الناس. وأكمل الطيران الحربي والتجسسي حتى كتابة هذه السطور مهماته الخطِرة تدميراً وقتلاً!
لا يشعر المواطن اللبناني «البعيد» عموماً مناطقياً وسياسياً وطائفياً، بما يشعر فيه الجنوبي اليوم من تهديدات وأخطار ماثلة. المواطن اللبناني «الآخَر» مقيم في مناطقه وأرزاقه بأمان، وحاله لا يتأثر بمتابعة الجيش الإسرائيلي قتلَه وتدميره، ولا يبدو معنياً إلّا بتسفيه المرحلة المقاوِمة السابقة، وسهلٌ عليه القول «هذا ما جنيتموه على أنفسكم» وهذا التكتيك والاستراتيجيا صناعةٌ لبنانية تتجلى في مقولة « االلهم نفسي». لكنّ الجنوبي الذي اعتاد، في جيلين، على الأقل، أن يقارع إسرائيل ويمنعها من السّلْبَطة الدهرية عليه، عبْر المقاومة التي تحميه، وتردّ بإيلام، يشاهد اليوم الفارق بألمٍ ومرارة وينتظر بحافزين، هما الإستعداد والأمل. وفي الانتظار حكمة للملمة الجروح الفظيعة في الجسد الشيعي العام، وفرصة للتأمل في ما جرى ويجري.
وفي حين يواجه الشيعة اللبنانيون ذاكرتهم القريبة النابضة بالكبرياء الوطنية ويحاولون إصلاح أعطابها، يمارس الداخل اللبناني، دولةً وشعباً، والعالَم العربي دوَلاً وأنظمة، والعالَم الأميركي – الإسرائيلي، تحريضهم للشيعة على اعتبارِ المقاومة كأنها لم تكن، وتجاوُز حتى فكرة المقاومة كفكرة، والجلوس على الأرض العارية بانتظار إعادة التعمير من الدولة والتي لن تحصل إلّا بشروط «المانحين» الهمايونية. وعلى الشيعة أيضاً «الاستمتاع» بمنع المال الإيراني من الوصول إليهم على هَدْيِ نكتةِ «لا يفعلونها ولا يسمحون لأحد بأن يفعلها»، والانكفاء عن تأييد «الثنائي الشيعي» بناء على نصيحة مشروع « بايجر» الذي يدرسه الكونغرس الأميركي اليوم ويقضي بعزل هذين التنظيمين لا في بيئتهم فحسب بل في كامل الدولة اللبنانية!
ما حصل للشيعة في لبنان خطيرٌ، وأخطر منه إكمال الوحشية الإسرائيلية بوحشية مطلوبة داخلياً تجاههم، ومُركَّزٌ عليها عربياً، ومفروضةٌ فرضاً أميركياً واجب الوجود. غير أن ما لم يفهمه أحد من هذه القِوى الخارجية والداخلية أن «الوضعَ» الناشيء لترويض الشيعة اللبنانيين ليس أبدياً ولن يكون، ويشبه إلى حدّ كبير قرار عزل «الكتائب» الذي اتخذته «الحركة الوطنية» بدوافع ياسر عرفات ذاته، وأدى إلى تجمُّع المسيحيين في «الكتائب» وحولها لأن تهديدها هو تهديد لهم… وكان ما كان مما نذكره جميعاً..
وإن ردود الفعل الشعبية التي ظهرت في عودة نازحي الجنوب بالقوة إلى مساكنهم هي نموذج عمن يراد له اقتلاع ذاكرته ورميَها على طريق نتنياهو وترامب وبعض العرب المضروب فعلاً على قلوبهم!
من الذاكرة القريبة التي كانت ملآنة بشواهد الصلابة والإرادة والتحدي وأُصيبَت بضربة حادّة، أصِلُ إلى الذاكرة البعيدة التي يحاولون اليوم تسفيهها واعتبارها وهْماً لا حقيقة وينبغي التخلص منها هي الذاكرة الحُسينية. بكلمة: هي حيّة منذ ألف وثلاثمائة سنة، وفي السنوات الأخيرة كان إحياؤها عبارة عن حشد قيَم وشخصيات ومواقف خالدة في الذاكرة لا الشيعية فقط بل الإسلامية، ولا تزال ذكرى تُستخلَص منها عِبَر عابرة للزمن. وردود أفعال الناس على ما جرى من قتل وتدمير، تتشبه بالمظلومية الحسينية للاستنهاض والتحدي على الأرض لا في النفس فقط!
هناك رموز لا يصدِّق بعض اللبنانيين المستعجلين على تقويض الصرح السياسي والشعبي الشيعي أنها من الثوابت الكبرى التي تتصل بغريزة البقاء. ومسألة صعوبة فهْم هذه الحال عند « الآخَرين» في لبنان هي مشكلة لهم وليس للشيعة. وهذا بالتحديد ما يجب الانتباه إليه.
فإن محاولة التلاعب بوقائع معينة في السياسة اللبنانية، تجاه الشيعة لن تكون نزهة على ضفاف نهر الدماء الذي أجرَته السياسة الأميركية – الإسرائيلية، بل هي المادة الأخصب للاشتعال في ساعات الضيق والحرَج والقمع.. ضد المحرّكين ووجوههم. والقواعد التي ثَبّتَها التاريخ في كل محطاته الكبرى، ستَبرُز بشكل أو آخَر من خلال قولٍ رحماني عظيم هو «إياك وظلم مَن لا ناصرَ له عليك إلّا االله»!
وتطِلّ إيران. يراها العالَم عصيّة على الفهم، والتفهّم، بطبيعةِ سلوكها، ومواقفها، ويراها أغلب الشيعة اللبنانيين وقد أحيَت نهضةً فيهم، وغامرَت بدعم مادي ومعنوي وتسليحي مقاوِم، أخرج إسرائيل التي تناصبها العداء من بلدهم، وتبادلها إسرائيل العداء بأدهى منه. وبعد حرب ٢٠٠٦ أعادت التعمير بمالها الذي ترك شعوراً شيعياً عارماً بأنها إلى جانبهم في السرّاء والضرّاء. ومحاولة منع مالها من الوصول إلى لبنان اليوم، لا جدوى منها، والمال يستطيع الوصول من أبواب غير مرئية لا هي مطارات ولا طرُق إجبارية في سوريا. فمن أوصل المال والسلاح والمتفجرات إلى غزة لن يُعدم وسيلةً. محاولاتٌ المقصودُ منها إخْطارُ الشيعة بأن إيران تخلّت عنكم، ولم تعد تفيدكم. والهدف حدوث «اختراق» تتأكد فيه شكوك رسمَتها بعض تفاصيل الحرب الأخيرة، وأوّلها «السماح» باغتيال السيد حسن نصراالله، وكان الشيعة يعتقدون بأن جحيماً إيرانياً لا هوادة فيه سيحصل إذا فعلت إسرائيل ذلك. ففعلَت إسرائيل ولم يكن هناك ردّ إيراني على مستوى الحدث الجلل. لا بل ترافق الموضوع مع «شعور» واسع بأنّ ثمة يداً إيرانية «أوصلَت» إلى غرفة عمليات السيّد حسن تحت سابع أرض. الأيام ستكشف ذلك بدقة. لكنْ ما انكشف هو أن إيران لا تدخل ولن تدخل حرباً من أجل أحد لا السيّد حسَن ولا غيره. وقتْلُ الأميركيين قاسم سليماني كان مؤشّراً أوّلَ، جاء بعده مقتل إسماعيل هنية في قلب العاصمة طهران، فالسيّد حسن نصراالله.
ذاكرة الشيعة محتفظة باحترام وإكبار لإيران كمساند وحاضن لتجربة المقاومة، لكنها ليست ذاكرة عمياء يمكن التلاعب بها. ذاكرة تُكوِّن رأياً وتدافع عنه من دون أن تنقاد إلا للوقائع. والوقائع الحالية تقول إن إيران هي الوحيدة، الوحيدة تماماً، في انتشال الوضع الشيعي اللبناني من بين مخالب التداعيات الجنونية للحرب، بقدرةٍ ليست كاملة بسبب الصعوبات اللوجستية لكنها شبه كافية في المرحلة الأولى من مَسح آثار العدوان الشيطاني. أما شأن إيران في الحرب مع إسرائيل فمرتبط بمصالح إيران النووية، لا غيرها، ولن تحدثَ من دون أن تكون حرب دفاع عن النفس، أي باعتداء إسرائيلي يسبقها ويستدعيها!
ذاكرة: بعد حرب ٢٠٠٦ وصدور القرار ١٧٠١، ظلّت إسرائيل تضرب هنا وتهدم هناك وتعربد هنالك مسافة سبعة أشهر حتى تغيّرت معطيات على الأرض أعادتها إلى رشْدها بالالتزام بالقرار. وبعدها معروف تماماً ما حصل من الانكفاء الإسرائيلي «لصالح» الفعل المقاوم. الوثائق الإسرائيلية تقول ذلك لا نحن. نحن نقول اهدأوا أيها المهرولون في اتجاه الأميركي صُمّاً بُكْماً خَدَماً، واعرفوا أن الناس لا يُكذِّبون ذاكرتهم حين تستعاد فصولها أمامهم بطريقة أو أخرى. لا الذاكرة القريبة تُنسى، ولا البعيدة، وهما تشكلان الفعل ورد الفعل وكل ما نختزنه في حياتنا. الأمر الوحيد الذي يمكن أن يسيطر على الذاكرة هو صناعة ذاكرة جديدة تتحقِّق فيها الأهداف بغير الأساليب التي حُقِّقتْ بها في المرات السابقة.
أتحدّث هنا، عن المجتمع الدولي وقرارات الأمم المتحدة وكنت أرغب في عدم تَذكُّرها!
والمحصّلة: ذاكرة الشيعة في لبنان تؤكد أنهم حرّروا أرضهم بكل قواهم العقلية والروحية التي بنى أسُسها الإمام موسى الصدر في العصر الحديث، واستمرّت مع السيد حسن نصراالله. وهذا جزء من يومياتهم وحكايات مواجهتِهم لعدو الأرضِ والإنسان وجزء من أَعْمَارهم على ثلاثة أجيال تقريباً. ولا يمكنك إقناع المقتول (الجنوبي) بأنه قاتل (كإسرائيل) بوجهةِ نظَر لا تنظرُ إلى واقعه. ولا أن تُوهمه بأنه يقتل نفسَه، والتجربة الحسيّة عنده عكس ذلك. وذاكرة الشيعة تعطيك تفاصيل عن أن أميركا وإسرائيل وبعض العرب تآمروا عليهم بسبب احتضانهم من إيران، والأدلة مستلّةٌ من تصاريح معنيّين، بالحرف والنقطة والفاصلة في الخارج والداخل. وذاكرة الشيعة عاشت تجربة «الداخل» اللبناني المَوتور حين هبّت قوى سياسية ضد تحالفهم مع «التيار الحر» بمجرّد أن فئة لبنانية خرقَت الحظر المفروض على الطائفة، ولو أن التحالُف انتهى مِضغةَ أفواه. وذاكرة الشيعة تدرك بالتفاصيل أن نزع سلاحها اليوم يعني تسليمها للحوت الإسرائيلي على طبَق من وعود بالمساعدة في نهوض لبنان. وما تتفتّق عنه الوقائع حول بلدنا تنبّهُهم بوضوح إلى أين ستأخذهم المرحلة اليهودية في الشرق العربي. إنه بحر هائج لا يتورّع بعض «سكان الأعالي» المحصّنة في بلدنا عن الدعوة الملحّة للانغماس فيه كأنه لعبة «بلاي ستايشن».
لا أيّ ظُلْم مقبلٍ، ولا أيّ قَيد يُحَضّر في رابعة ِ نهارِ.. نتنياهو وترامب، سيختلفان عن منطق التاريخ الحاسم:
تُفاخِرُ بالتيجانِ والجيشِ والقَهْرِ
وتفرضُ ما تهواهُ من أحرفِ الجَرِّ
لعَمري جوابُ الظلْمِ ما كان خافياً
فها هوَ أوهامٌ تُرفرفُ.. في قَبْرِ.