كتب يحيى دبوق في “الأخبار”:
نسفت إسرائيل ما جرى الاتفاق عليه بين وفدها إلى مفاوضات الدوحة، وبين الوسطاء وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، وذلك بعد أن أصرت على السيطرة العسكرية المباشرة على محور «فيلادلفيا» على الحدود الجنوبية لقطاع غزة، بدعوى أن تلك السيطرة هي الخيار الوحيد الذي يتيح منع حركة «حماس» من ترميم قدراتها والعودة إلى واقع ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وبدلاً من أن يعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في زيارته الأحدث إلى المنطقة، التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار في قطاع غزة – وهو ما أريد له، على أي حال، أن يخدم الأجندة الداخلية لإدارة جو بايدن في هذه المرحلة -، عمد، كما بات معتاداً، إلى إلقاء اللوم على حركة «حماس» التي لم يكن لديها أي خيار آخر غير رفض الصفقة التي لا تتضمّن انسحاباً إسرائيلياً من القطاع.
فهل يمكن القول إن بلينكن عاد خالي الوفاض إلى واشنطن، وإنْ في ظلّ وعود تطلَق من هنا وهناك، بإمكانية إحراز تقدّم في الجولة التفاوضية الجديدة المرتقب عقدها في القاهرة؟الأكيد أن الكرة الآن في ملعب الإدارة الأميركية، التي سيكون عليها أن تقرّر، في ظرف حساس جدّاً بالنسبة إليها ربطاً بالانتخابات الرئاسية المنتظَرة في الولايات المتحدة، ما إن كانت ستواصل وساطتها بجدية لإحداث خرق حقيقي في جدار الحرب، أم أنها ستستمر في ادّعاء ذلك فحسب، والتماشي مع شرطَي رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، الحائلَين دون أي اتفاق، وهما: السيطرة العسكرية المباشرة على ممرّ «نتساريم» ومحور «فيلادلفيا»؟ إذا آثرت الخيار الأول، فسيتعين عليها «ابتداع» الحلول وإقناع حليفتها بها، أي الانتقال إلى لعب دور الوسيط القوي، الذي يملي هو شروطه على الآخرين. أما مواصلة التساوق مع إسرائيل، التي تتمسك بدورها بتسويف الحلول، فيعني المخاطرة بالانزلاق من مواجهة مسيطَر عليها نسبياً، إلى مواجهة واسعة توصف بأن مستوى اللايقين فيها عال جدّاً، سواء ما يتعلق بأثمانها أو مجرياتها أو نتائجها، مع استبعاد اقتصارها على ساحة إسناد واحدة أو اثنتين، واحتمال شمولها مختلف الساحات التي قد تجد نفسها متدخلة تلقائياً في الحرب، بمستويات تفوق بكثير ما هي عليه الآن.
ولعل تلك المخاطر هي التي تدفع واشنطن، إلى جانب الاعتبارات الداخلية، إلى تكثيف تحركاتها في اتجاه تذليل العقبات أمام إبرام الصفقة، ومن بينها اتصال الرئيس الأميركي، جو بايدن، بنتنياهو، والذي وُصف بـ«القاسي والصعب»، والتحاق مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إي»، وليام بيرنز، بالمباحثات الدائرة في القاهرة، في محاولة لتعزيز فرص نجاحها، وإيجاد بديل من التمركز الإسرائيلي في «فيلاديلفيا» يحقّق لتل أبيب النتيجة نفسها التي تتوخاها من وراء ذلك. وفقاً للتسريبات، فإن المباحثات التي انعقدت الخميس بين الوفدين المصري والإسرائيلي، لم تسفر عن أي نتائج، فهل يفلح استمرار الضغوط والمساعي في ثني نتنياهو عن موقفه؟ حتى الآن، لا تقديرات حاسمة، وإن كان البعض يرى أن الجديد الذي سيحدث هو القديم نفسه، أي القبول ثم الرفض، وهو ما يحذر منه المراقبون، وتحديداً في ما يتعلق بالنيات والأهداف التي تتجاوز، على ما يبدو، قطاع غزة إلى ساحات المواجهة في الإقليم، والتي يراد لها، بحسب عدد من القراءات، أن تندفع دفعاً إلى مواجهة تكون إسرائيل هي الطرف الأصغر فيها وإن كانت هي عنوانها الرئيسي، أي بين الولايات المتحدة ومحور المقاومة برمته، وعلى رأسه ساحة الإسناد الرئيسية في إيران.
موقف المؤسستين الأمنية والعسكرية، في الجوهر، لا يخالف كثيراً موقف نتنياهو
قد تبدو الفرضية المتقدمة مبالغاً فيها، إلا أنها كانت دائماً جزءاً لا يتجزأ من تفكير نتنياهو، الذي ظلّ، في المقابل، يفتقر إلى الأدوات والأعذار اللازمة لدفع هكذا سيناريوات متطرفة، وسط امتناع أميركي دائم عن مجاراته. وعلى هذه الخلفية، قد يرى نتنياهو، ومن معه، في الوضع الحالي فرصة لتحقيق أمنياته، فيما ترى المؤسستان الأمنية والعسكرية في ذلك، مخاطرة غير محسوبة. وتعتقد هاتان الأخيرتان أن تعاظم مخاطر الحرب الإقليمية يبدو بحد ذاته عاملاً كافياً للدفع نحو اتفاق تبادل على مرحلتين، جرى ترحيل أهمّ ما فيه، أي وقف إطلاق النار وما سيليه، إلى مفاوضات تسبق المرحلة الثانية، وهو ما يعدّ تنازلاً كبيراً من قِبل «حماس»، التي سهّلت ما أمكنها المسار التفاوضي، ولم يعد بحوزتها ما تقدمه من تنازلات، سوى الاستسلام المرفوض على خلفية مصير المقاومة والقضية الفلسطينية ومستقبلها.
ومع ذلك، فإن موقف المؤسستين الأمنية والعسكرية، في الجوهر، لا يخالف كثيراً موقف نتنياهو، بل يدفع نحو تنازلات مؤقتة لا أكثر. إذ يقترح قادة الجيش والأجهزة الأمنية إبرام صفقة تؤدي إلى إطلاق سراح أكبر عدد ممكن من الأسرى الإسرائيليين، بما ينزع هذه الورقة من يد «حماس»، ويرضي جمهوراً عريضاً في إسرائيل، على أن يصار لاحقاً إلى فعل ما تحدده المصلحة الإسرائيلية، في المرحلة التي تلي وقف إطلاق النار المؤقت، والذي لن يتجاوز الأسابيع. ووفقاً للإعلام الإسرائيلي، يؤكد قادة الجيش و«الشاباك» لنتنياهو أنه من الممكن الانسحاب من محور «فيلادلفيا» لمدة شهرين، والاكتفاء بالوسائل التكنولوجية لمراقبة المكان، مع إمكانية العودة إليه لاحقاً. بتعبير آخر، يقترح هؤلاء تجميد السيطرة المباشرة على المحور المذكور، والاستعاضة عنها بوسائل أخرى مؤقتاً، من أجل إبطال ورقة القوة التي بيد المقاومة.
لكن ما الذي يدفع نتنياهو إلى رفض ذلك؟ يبدو أن ثمة في رأسه ما يتجاوز قطاع غزة، وتحديداً إلى الإقليم، الذي لا ينقصه الكثير قبل أن يتحول مستوى التصعيد فيه إلى مواجهة شاملة. وتلك الفرضية هي التي تفسر، أكثر من غيرها، مستوى التدخل الأميركي الذي عاد ليكون فاعلاً، وإصرار واشنطن على مواصلة جهودها رغم فشل مهمّة وزير خارجيتها، وهو ما يشير إلى خشيتها من تطورات في المنطقة قد لا تتوافق ومصالحها في هذه المرحلة، وأقلّ ما يقال عنها إنه لا يقين إزاء ما قد تصل إليه.