كتب سمير باكير:
يربط سورية و تركية حدود شائكة و طويلة تزيد عن ٩٤٠كم إضافة لاختلاط بالنسيج الاجتماعي و وجود التركمان في مناطق من الشمال السوري كأرياف حلب و الرقة و مدن عربية في الجنوب التركي كأورفة و ماردين و كلّس و غيرها لكن ما يميز العلاقات بين البلدين منذ خروج الاحتلال العثماني من سورية هو حالة من التوتر و البعد السياسي و لعل أسوأ تلك الفترات ما بعد ثمانينيات القرن الماضي و خصوصاً فترة الرئيسين سليمان دميرال و حافظ الأسد و الاتهامات التي التي كان الأتراك يكيلونها للسوريين بخصوص حزب العمال الكردستاني لكن باعتقال عبد الله أوجلان هدأت الأمور قليلاً و خاصة في السنوات الأخيرة من حكم حافظ الأسد و حدثت ثورة في العلاقات بقدوم حزب العدالة و التنمية و تسنم الرئيس إسماعيل نجدت سيزار للحكم و معه رجال المرحلة و هم عبدالله غل و رجب طيب أردوغان.
العلاقات السورية التركية في ظل حكومتي بشار الأسد و العدالة و التنمية:
كان بشار الأسد الرئيس السوري الشاب القادم على إرث حكومة حافظ الأسد و التي تضم مجموعة من المحاربين القدامى المتحفظين على أي تغيير في السياستين الداخلية و الخارجية شجاعاً و منفتحاً فتحدى كل الرؤى السياسية و الأمنية لأجهزته و تقارب مع الأتراك فاتحاً لهم أبواب دمشق على مصراعيها بعلاقات متميزة عنوانها السلام و حسن الجوار و العلاقات السياسية و التجارية البناءة و تنامت العلاقات الثنائية شيئاً فشيئاً حتى أصبحت مثالاً و أنموذجاً لعلاقات حسن الجوار و لكن كان الساسة السوريون يسيرون للامام بحذر و رويّة لكونهم يعلمون السياسة التركية و يعرفونها جيداً و ليسوا مطمئنين للعلاقات الثنائية حتى سقطت هذه الصداقة و انهارت أمام أول امتحان للثقة بين الطرفين بحيث ظهرت الطبيعة الإخوانية للحكومة التركية في بدايات الأحداث السورية عام ٢٠١١م و ذلك من خلال التصريحات التي أطلقها كل من الرئيس رجب طيب أردوغان و وزير خارجيته داود اوغلو و التي تلاها التدخل التركي المباشر في سورية.
الدور التركي في الصراع السوري:
دخل الأتراك المعركة ضد الحكومة السورية الشرعية المنتخبة بقوة و ضوح نهاراً جهاراً و ذلك من خلال تدريب المسلحين الأجانب و الإرهابيين من أكثر من ٣٠دولة و زجهم في الساحة السورية التي تغمرها الفوضى و الدماء بحجة دعم ما يسمى “بالثورة” في ظل تيار الربيع العربي الذي تم حرف مساره بفعل اجهزة استخبارات عربية و إقليمية و غربية ليتحول من أمل للشعوب المكبوتة إلى مصيبة تهدد الأمن القومي العربي و الوجود العربي برمته. فتحت تركية الحدود من إدلب غرباً و حتى تل أبيض شرقاً بينما حافظت على حدود جنديرس و عفرين و عين العرب و رأس العين مغلقة بقوة و هي مناطق كردية و كانت حجة الأتراك هو الحالة الإنسانية و اللاجئين المجتمعين على الحدود الجنوبية و أن الجيش السوري على وشك القيام بإبادة جماعية لشعبه و أهله و كانت هذه الرواية مدعومة من المكنات الإعلامية العربية و العالمية بينما تحت ستار دخول اللاجئين من الحدود المفتوحة دخل آلاف الإرهابيين الراديكاليين من تركية بأمر و تعاون من المخابرات التركية و الوثائق الاستخباراتية تثبت مطلقاً ضلوع المخابرات التركية و جهات أخرى عربية في استقطاب و تدريب و إدخال المسلحين إلى شمال مدينة حلب و انطلاق مجاميع إرهابية كأحرار الشام و جبهة النصرة و الحزب التركستاني و من ثم تنظيم داعش الإرهابي و الأسوأ سمعة في التاريخ المعاصر. معسكرات جنوب كلس و الريحانية و التي انطلقت منها قوات لواء التوحيد و اسقطت حلب بيد الإرهابيين و أتت على الصناعة في مدينتها و تم نهب خيرات المدينة و معملها و نقلها للمدن الصناعية في مرسين و هاتاي و غازي عنتاب و غيرها من خلال وعود و تسهيلات أعطاها الأتراك للتجار السوريين الذين يديرون اليوم معاملهم هناك بعد حصول عدد منهم على الجنسية التركية و بهذا ضربت تركية العصب الإقتصادي لسورية و هو مدينة حلب التي يعرفها العالم كله.
أما معركة إدلب و دخول الجيش التركي مع مسلحي النصرة بشكل مباشر و اسقاط المدينة لتقع في أيادي الإرهاب و تتحول لإمارة إسلامية مرتبطة بتنظيم القاعدة الإرهابي من خلال تصريحات أميرها الجولاني الذي يفعل اليوم بإدلب و أهلها ما يندى له الجبين و بمظلة تركية مباشرة و دعم تركي مطلق من خلال معبر باب الهوى الشريان الأهم بين البلدين و تسويق إمارة إدلب إقليمياً و دعمها المباشر. و أثبتت المعركة معرفة الأتراك بتفاصيل مهمة في الداخل السوري عسكرياً و إجتماعياً و أثبتت الحرب أن فترة التقارب بين البلدين في العقد الأول من القرن الواحد و العشرين كانت خلالها المخابرات التركية ناشطةً بشكل كبير في الأراضي السورية و على معلومات كافية عن الداخل السوري لاسيما المناطق الشمالية السورية.
دور تركية الضامن الثالث و حامي المعارضة السورية:
تسير العملية السياسية السورية ببطء و هدوء يعطلها الأحداث الدولية و الإقليمية بينما يضمن الروس و الإيرانيون و الأتراك سير العملية كل عن حليفه و أصدقائه و ينشط الإيرانيون و الروس في مناطق مختلفة من سورية من خلال قواعد انتشارهم في مناطق ساخنة بالتنسيق مع الحكومة السورية الشرعية دون أي تدخل اجتماعي أو أنشطة مشبوهة رغم نشاط الإيرانيين ثقافياً بشكل ناعم لكنه بالمجمل يحترم قواعد اللعبة و الخطوط الحمراء الحكومية و الديموغرافية السورية التي هناك توجيهات من المرشد الأعلى للثورة بحفظها كما هي دون الإخلال بالنسيج الإجتماعي السوري. أما الضامن التركي فقد تخطى دوره كضامن للعملية و تحول لمحتلٍ للبلاد بكل وضوح حيث تفرض تركية اليوم وجودها العسكري في شمال سورية و تروّج للغة التركية و ذلك من خلال تغيير أسماء المجموعات المسلحة و الشوارع و المدارس و حتى الحدائق بأسماء تركية كلواء السلطان مراد و سليمان شاه و لواء الفاتح و غيرهم و حديقة الأمة التركية في أعزاز بريف حلب و شوارع بأسماء جنود أتراك في الباب و مارع و الراعي. الكتابات التركية تغطي جدران المؤسسات و المدارس و المدن و صور أتاتورك و أردوغان تنتشر في مكاتب المسؤولين السوريين في الشمال و لا يكاد يظهر علم الانتداب الفرنسي إلا و بجواره علماً تركياً و المئات من زيارات وزراء الداخلية و الصحة و الخارجية و غيرهم في خرق واضح للقانون الدولي و السيادة السوري و الأعراف الدبلوماسية و أما الولاة الأتراك فزياراتهم للشمال السوري شبه يومية دون أي خجل أو اعتبار و أما العملة التي يتداولها اليوم الشعب السوري هناك فهي الليرة التركية و الكتابة و نظام المراسلات الوظيفية و الإدارية كلها باللغة التركية و يشترط أي إعلان لتوظيف أي مواطن سوري هناك معرفته بالقراءة و الكتابة باللغة التركية و هي إشارة واضحة لاجبار الشباب لتعلم اللغة التركية من أجل حصولهم على فرصة عمل محترمة و هذه السياسات تؤكد قانونياً و سياسياً أن الوجود التركي في الشمال هو احتلال مطلق بكل المعايير القانونية من خلال فرض اللغة و العلم و العملة و هل بعد هذا دليل؟! فكيف تقبل الحكومة السورية و الضامنَين الروسي و الإيراني بهذا الدور و هذا خيانة لسورية و لتضحيات شعبها. حاول الأتراك أيضاً السيطرة على العرب هناك و استرضائهم و هم الأكثرية المطلقة في الشمال مع أقليات كردية و تركمانية. فالتركمان هم سادة الموقف و المتحكمين بالتفاصيل الأمنية و العسكرية و الإقتصادية مثل رئيس ما يسمى الحكومة السورية المؤقتة التركماني و رؤساء ألوية المسلحين كفهيم عيسى و غيرهم. أما العرب فقد تعايشوا مع الوجود التركي على مضض و من باب المصالح ليس إلا و بالنسبة للأكراد فقد أطلق التركي العنان للمسلحين لتهجير الكرد من قراهم و مناطقهم و مصادرة أرضهم و بيوتهم و وصلت بعض التجاوزات للاغتصاب و القتل دون أي تعليق من الجانب التركي.
الدور التركي في تعطيل التسوية السورية:
هاجر ملايين السوريين بلدهم إلى تركيا و لبنان و الأردن و أوروبا و يعانون الغربة و العنصرية و سوء المعاملة في بلدان مختلفة لكن العملية السياسية و اللجنة الدستورية لم تحرز أي تقدم بعض سنوات من انطلاقها و لا تزال تركية تعاند و تعطل العمل متمسكةً ببقايا المعارضة كشماعة لتعطيل الحل أو تأخيره على الأقل بينما يعاني السوريون أسوء الظروف من الفقر و الجريمة و انتشار المخدرات في الشمال السوري. آلاف الخيم تفترش الأراضي الجبلية أو الزراعية في الشمال و تفتقر لأدنى مقومات الحياة من مياه و كهرباء و سقف يقيهم حر الصيف و قرّ الشتاء و قد جرفت السيول المئات من الخيام في كل عام لكن دون أي اهتمام من المجتمع الدولي أو الضامن التركي. الآلاف من الأطفال محرومون من التعليم و الصحة و الأمان و انتشار السلاح المنفلت في الشوارع و البيوت و هشاشة المنظومة الأمنية و البنية المؤسساتية و الاقتتال بين الفصائل بين الفينة و الأخرى و الإحباط المطلق الذي دمر الشباب ساعد في انتشار حبوب الكبتاغون و الإتش بوز في الشمال السوري و اعتادها الآلاف من الشباب و الأطفال و النساء في ظل غياب فرص التعليم و العمل و أن الشهادات الدراسية التي يحصل عليها الطلاب هناك لا تساوي قيمة الحبر الذي طبعت به و لا تغني و لا تسمن من جوع. لقد تم تدمير جيل كامل من شباب سورية هناك في الشمال و هو الجيل الذي فتح عينيه على الدنيا في مدنٕ يحكمها الإرهاب و مبر على مجتمع مدمّر و فوضى سلاح و خطف و اغتيالات و سطو و قتل و تشريد و ظلم و نقص في الأموال و الفرص و بطالة مرعبة و انتشارٍ للمخدرات بينما يصور الأتراك الشمال أنه جنة غنَّاء وارفة تحكمها الحرية و الإخاء و العدل و السلام و المحبة و كأنها مدينة أفلاطون الفاضلة بينما يعلم الجميع مدى المشكلات الإجتماعية و مخاطرها في ظل التغيير الديموغرافي الذي مارسه الأتراك هناك فأي جريمة و أي دور و أي ضمان مارسه الاحتلال التركي في الشمال في تواطؤٍ عربي و صمتٍ غربي.
أما آن لتركية الدولة الجارة لسورية أن تعي ما فعلته في سورية و شعبها ألم تقامر تركية بأمنها القومي و الداخلي من خلال فتح حدودها، ألم تنعكس اللعبة على الأتراك و على بعد ثلاثين كيلو متراً من جنوب تركية ينشأ كانتون كردي إرهابي يهدد أمن تركية و وحدتها الوطنية و لا ندري ماذا تخبئ الأيام لتركية و الزمان كما يقول السوريون دوّار. فلماذا لا يترك الأتراك سورية لأهلها و شعبها ليتفقوا على دستور و قانون جديد و يقدموه للاستفتاء العام بعيداً عن التدخلات الخارجية و يقرر السويون مصيرهم بأيديهم و يلملموا جراحهم و الزمان كفيل بطي صفحات الماضي بين أبناء الشعب الواحد.
طبعاً لا يخفى على أحد ما نسمعه اليوم من وساطة عراقية بين سورية و تركية و لقاءات تركية سورية في الباب و حميميم و بغداد و أنباء عن تقاربٍ بين البلدين لكن على الأسد أن يكون واعياً للخطوة التي يخطوها و هو الذي خطى خطوةً مماثلة في بداية حكمه و طوى صفحة الماضي مع الأتراك فهل يستطيع الأسد الآن طي صفحة ١٣ عاماً من الخيانة و الاحتلال و الدماء التي كان الأتراك عرابوها و قادتها فلا سلام بلا أرض و لا تنازل عن دماء الشهداء و كيف يسامح السوريون تركيا التي غاصت قوائمها في بحر الدماء السورية و لا أظن السوريين يرضَون فهل يرضى الأسد؟!