الاخبار الرئيسيةمقالات

الصين | شي يستلهم ماو: تطويق المركز من الأطراف

الاخبار- وليد شرارة

هو أعنف تصريح لمسؤول صيني منذ عقود. درج القادة الصينيون على تجنّب المزايدات اللفظية، أو «الجذرية الجوفاء»، كما كان يُقال في لغة الحركات الثورية، حتى في لحظات اشتداد الأزمات بينهم وبين لاعبين آخرين إقليميين أو دوليين. المزايدات والمهاترات ليست أصلاً من تقاليد الصينيين السياسية أو الثقافية. وعندما أيقنوا، بعد إعلان باراك أوباما عن «الاستدارة نحو آسيا»، بأن الأولوية الأولى للولايات المتحدة هي احتواء الصين، قرّروا اعتماد ردّ طويل الأمد، ولا يستعجل الصدام المباشر، عبر مشروع «الحزام والطريق». قناعة هذه القيادة بأن الزمن يعمل لمصلحة الصين، دفعتها للسعي إلى تجنّب أيّ تصعيد يقود إلى الحرب، شرط عدم المساس بالوحدة الترابية لبلادها. وتايوان، في عرفها، هي جزء لا يتجزّأ منها. لذلك، عندما يتحدّث وزير دفاعها عن شنّ حرب لـ»سحق» أيّ محاولة انفصالية في تايوان، يجب أن يؤخذ كلامه على محمل الجدّ.

أظهرت التجربة التاريخية أن استراتيجيات الاحتواء الأميركية هي مقدّمة لتفكيك البلاد المستهدَفة بها، كما حصل مع الاتحاد السوفياتي مثلاً. وفي الحالة الصينية، قد يبدأ الأمر بفصل تايوان للانتقال بعدها إلى تشجيع انفصال هونغ كونغ وسين كيانغ وتيبيت. تطوير القدرات العسكرية والتكنولوجية الصينية هو السبيل الأبرز للتصدّي للعدوانية الأميركية، غير أن لبكين سبُلاً أخرى فعّالة تستطيع اللجوء إليها للغاية المذكورة أيضاً. «الصداقة بلا حدود» مع روسيا، وما تعنيه من شراكة شاملة بين البلدين، أحد تلك السبل، وكذلك مشروع «الحزام والطريق» وما يترتّب عليه من تعظيم للمصالح المشتركة مع دول الجوار القريب والبعيد. سبل أخرى لا تقلّ أهمية قد تلجأ إليها الصين، هي توظيف شبكة الشراكات التي عملت على تنميتها مع بلدان الجنوب، على المستوى الاقتصادي أولاً، ولكن لأهداف سياسية هذه المرّة. فمن خلال توثيق الصلات والتعاون مع الأنظمة الوطنية في بلدان الجنوب، وتعزيز النزعة الاستقلالية لدى دوله الأخرى التي عبّرت، في الآونة الأخيرة، وفي سياق الحرب الأوكرانية، عن رفضها للانقياد الأعمى خلف الولايات المتحدة، بإمكان بكين تكثيف ضغوطها على مصالح واشنطن ونفوذها في مناطق مختلفة من الكوكب.

في أواسط القرن العشرين، رأى الرئيس ماو تسي تونغ أن التناقض الرئيس في عصر الإمبريالية هو بين مراكزها المهيمنة من جهة، وبين شعوب الأطراف، أي جنوب العالم، من جهة أخرى، وليس بين الطبقة العاملة والبورجوازية في تلك المراكز. الاستراتيجية الثورية الفعلية على صعيد كوني، بنظر ماو، كانت تقتضي محاصرة مراكز الهيمنة من خلال المساهمة في تحرير أطرافها التابعة، المستعمَرة وشبه المستعمَرة. لا تحمل الصين، اليوم، لواء الثورة الاشتراكية العالمية، لكنها، وفي إطار التصدّي للمخطّطات الأميركية المعادية لها، تتقاطع مع بلدان الجنوب الأخرى التي تقاوم العدو نفسه، ومع تلك التي تريد توسيع هامش استقلاليتها، وتشارك في إنتاج الظروف المؤاتية لتسريع انحسار الهيمنة الأميركية.

توظيف النفوذ كسلاح؟
لا يخرج العداء الأميركي للصين عن القاعدة العامة التي حكمت العلاقات بين القوى الإمبراطورية المتراجعة وتلك الصاعدة، ولكن ثمّة دافع إضافي له أقرّت به كيرون سكينر، مديرة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية في عهد دونالد ترامب. وفقاً لسكينر، وهي من أصول أفريقية-أميركية، فإن «المنافسة مع الاتحاد السوفياتي كانت بمعنى ما معركة في داخل العائلة الغربية. المعركة، اليوم، مع حضارة مختلفة فعلاً، وأيديولوجيا مختلفة… إنها المرّة الأولى التي سنجد فيها أمامنا قوّة عظمى منافِسة ليست قوقازية (القوقازي هو الأبيض في التراتبية العرقية الأميركية)». والأنكى هو أن هذا المنافِس غير الأبيض نجح بهدوء وبراعة وصبر في التسلّل إلى بقاع في العالم غير بيضاء، كانت محميّات خاضعة لهذه القوّة الغربية أو تلك، والتغلغل في مختلف مجالات الحياة فيها. تقرع ناديج رولان، الباحثة الرئيسة في «المكتب الوطني للدراسات الآسيوية»، وهو من المؤسسات البحثية الأميركية النافذة المتخصّصة في الشؤون الصينية، في مقال على موقع «فورين أفيرز» بعنوان «استراتيجية الصين الجنوبية»، ناقوس الخطر أمام ما تحسبه سعي الصين إلى تحويل نفوذها الاقتصادي والتجاري الهائل في بلدان الجنوب إلى سلاح (weaponization) لمواجهة احتواء الغرب لها وتهديد مصالحه. هي تشير، على سبيل المثال، إلى نجاح بكين في حمْل العديد من بلدان الجنوب على قطع علاقاتها مع تايوان، أو في التصويت ضدّ قرارات تدين انتهاكاتها لحقوق الإنسان في المحافل الدولية. باختصار، بحسب رولان، تستغلّ بكين علاقاتها التجارية واستثماراتها وتعاونها العلمي والتكنولوجي كرافعة جيوسياسية. وتضيف الباحثة أن صلات الصين الوثيقة مع دول الجنوب ستحصّنها من تبعات فسْخ الشراكة الاقتصادية والتجارية بينها وبين دول الغرب في المستقبل، وتوفّر مقومات لاستمرار نمو اقتصادها؛ ففي «أفريقيا وحدها، تشير التوقعات إلى أن الطبقات الوسطى ستضمّ 800 مليون إنسان في الـ15 سنة المقبلة، مع ما يترتّب على ذلك من طلب على السلع والاستثمارات الصينية».


ما يصوَّر على أنه تغول للنفوذ الصيني، ينظر إليه في بلدان الجنوب على أنه إرهاصات لدخول العالم في حقبة ما بعد الهيمنة الغربية
وقد أشرفت رولان على تقرير للمكتب المذكور آنفاً بعنوان «بنى تحتية حيوية في استراتيجية الصين الأفريقية» صدر في أيار الماضي، يفصّل النشاط الاقتصادي والتجاري في القارة السمراء في مجالات سكك الحديد والاتصالات والمرافئ ومحطات الكهرباء وبناء المجمعات الصناعية. الأخطر، من منظور الإمبراطورية المنحدرة، هو «الاجتياح الصيني» لوسط وجنوب القارة الأميركية، أي لـ»الحديقة الخلفية»، بعد أن انتقل حجم التبادل التجاري بين بلدانها والصين من 12 مليار دولار في عام 2000، إلى 330 مليار دولار في 2019، وحيث تشمل استثمارات بكين مجالات حيوية كالمناجم وقطاع الطاقة والاتصالات والتعاون التكنولوجي والعسكري.
بطبيعة الحال، لم يذكر معدّو هذه التقارير مثالاً واحداً على قيام بكين بغزو واحتلال أيٍّ من تلك البلدان، أو على تنظيم انقلابات عسكرية فيها، لاستتباعها اقتصادياً، كما فعل الغرب طوال تاريخه، لأن ذلك لم يحصل بكل بساطة. في الواقع، فإن سرّ هذا الاستنفار الغربي ضدّ الصين يعود إلى توفيرها فرصة تاريخية بالنسبة إلى بلدان الجنوب لتنويع شراكاتها والخروج من أسْر التبعيّة للغرب، وإطلاق عمليات تنموية منسجمة مع مصالح شعوبها.

إرهاصات عالم ما بعد الهيمنة الغربية
ما يصوَّر على أنه تغوّل للنفوذ الصيني، ينظَر إليه في بلدان الجنوب على أنه إرهاصات لدخول العالم في حقبة ما بعد الهيمنة الغربية. العديد من المسؤولين والمفكرين، كالسيد علي خامنئي، ومهاتير محمد، وهوغو تشافيز، وسمير أمين، وعلي القادري، ووالتر مينيولو، وراديكا ديزاي وآخرين، لفتوا، في مناسبات كثيرة، إلى التحوّلات المستمرّة والمتسارعة في موازين القوى الدولية نتيجة فشل سياسات الحرب والعدوان المتبعة من قِبَل الغرب في الحفاظ على هيمنته، وإلى تفاعل هذه العوامل الجيوسياسية مع العوامل الجيو-اقتصادية لإنتاج الشروط المناسبة للانتقال نحو منظومة عالمية متعدّدة القطبية.
ولا شكّ في أن للصين، بما تمتلكه من قدرات اقتصادية وعلمية وتكنولوجية، دوراً مركزياً في تسريع هذا المسار، بخاصّة مع احتدام تناقضاتها مع الولايات المتحدة. هي في موقع يتيح لها تعزيز الشراكة بين بلدان الجنوب، لا سيما تلك التي تقودها أنظمة وطنية، وتشكيل جبهة في ما بينها شبيهة بـ»الصداقة بلا حدود» التي تجمعها بروسيا، في مقابل ما نشهده من تلاحم متزايد للمعسكر الغربي. ديناميات المواجهة الشاملة التي يتّجه نحوها العالم، والتي لن تقتصر على الميادين السياسية والأيديولوجية والعسكرية، بل تتعدّاها لتشمل الاقتصاد والتكنولوجيا، تفتح آفاقاً رحبة أمام مثل هذا الخيار.

زر الذهاب إلى الأعلى