تلبية لدعوة خاصة من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، وصل الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى العاصمة السعودية الرياض، في زيارة رسمية استمرت 3 أيام، عقدت خلالها لقاءات ثنائية وشارك في 3 قمم مع دول عربية لتعزز التعاون العربي الصيني.
حفاوة استقبال الرئيس الصيني في الرياض كانت لافتة ومعبرة، التقطت منها إشارات مشفرة ورسائل تطايرت في عدة اتجاهات، وخصوصاً أن شي جي بينغ انتخب للتو أميناً عاماً للحزب الشيوعي الصيني في تشرين الأول وتم منحه ثقة الحزب لفترة ثالثة.
رمزية المصافحة الحارة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض، كانت لافتة إذا ما قورنت بالاستقبال الباهت وبالمصافحة الباردة بين الرئيس الأميركي جو بايدن وبين الأمير محمد بن سلمان في تموز الماضي بجدة، وهذا الأمر له تفسير في عالم الدبلوماسية والعلاقات الدولية ما يعني أن خطوطاً جديدة رسمت تفصل بين مرحلتين، وبأن المرحلة الحالية ستكون مختلفة عما سبقها من علاقات سعودية أميركية وأيضاً سعودية مع الشيوعية الصينية.
القمة السعودية- الصينية في الرياض، تلاها قمة صينية مع دول مجلس التعاون الخليجي، ثم قمة صينية مع رؤساء دول عربية، الأمر الذي ينبئ بتحولات كبرى تجري في المنطقة.
بعض المراقبين ذهب إلى استنتاج بأن زمن هيمنة الولايات المتحدة على دول الخليج قد ولى، وبأن الصين الشيوعية دعيت إلى المنطقة لملء الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الأميركي، أما البعض الآخر فقد وضع الزيارة الصينية إلى الرياض في خانة التنسيق المسبق بين البيت الأبيض ودول الخليج، الهدف منه احتواء الصين وإغراؤها بالسوق الخليجي العربي، على حساب تفكيك التحالف القائم بين الصين وروسيا وإيران، وخصوصاً في ظل الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا واستتباعاً بين روسيا وحلف الناتو.
صحيح أن المنطقة العربية وحماية دول الخليج، والسعي لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، لم يعد يحتل أولويات الإدارة الأميركية، بعد تفرغها لإدارة المعركة بين روسيا والناتو، إضافة إلى التضخم المالي الذي لم يسبق له مثيل الحاصل في أميركا نفسها، وفي دول أوروبا التي تبحث عن طرق التملص من السطوة الأميركية بعد الأضرار التي لحقت باقتصادها جراء العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا وتحديد سعر نفطها.
الواضح أن علاقة الإدارة السعودية بإدارة الديمقراطيين في البيت الأبيض تضررت مؤخراً إن لجهة إصرار السعودية الالتزام بقرار أوبك+ الأخير أم لجهة انخفاض الدعم العسكري الأميركي للسعودية، وخصوصاً بعد بروز أصوات ديمقراطية أميركية اتهمت السعودية بالوقوف في صف روسيا ودعت إلى جعل السعودية دولة فاشلة انتقاماً لموقف السعودية الأخير.
وهنا يجب علينا التزام الوقعية وعدم الأخذ بالمبالغات الحاصلة في بعض التحليلات والاستنتاجات البعيدة عن الواقع.
إن السعودية والإمارات ودول الخليج تعتمد اعتماداً كلياً على واشنطن كمورد للمعدات العسكرية والحماية، وسيكون من المستحيل تقريباً استبدال الصين بأميركا، ولكن ذلك لم يمنع السعودية ودول الخليج الأخرى من الاقتراب من بكين بشأن التعاون في التجارة والتكنولوجيا وحتى تكنولوجيا الصواريخ الباليستية والمسيرات المسلحة، والقيام بتنويع مصادر السلاح بدلاً من الاعتماد الكلي على أميركا، وذلك حسب ما تقتضيه المصلحة.
هنا نلفت إلى ما قالته نيسا فيلتون، كبيرة المديرين في شركة «Janes IntelTrak» الاستشارية الأميركية، إنه في حين أن الصين لا تشكل حالياً تهديداً للدور التاريخي للولايات المتحدة كمزود للأمن في الخليج، فإن «العلاقات السياسية المتزايدة، سواء على مستوى قيادة الحكومة أم من خلال التصويت في المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة أو تنفيذ المبادرات الإستراتيجية المشتركة يحتمل أن يكون إشكالياً لمصالح الولايات المتحدة على المدى الطويل، وأضافت إن هذا التعاون الأوسع نطاقاً يشير إلى الانفتاح على التنويع بعيداً عن العلاقات التقليدية لهذه البلدان مع الولايات المتحدة.
مما لا شك فيه أن زمن النظام الأحادي الذي مكّن أميركا من فرض هيمنتها على العالم والاستيلاء على ثروات الدول وتقسيمها بشكل عامودي على قاعدة جورج بوش الابن إما معنا وإما ضدنا قد ولى إلى غير رجعة، وأن ما يحكم العالم اليوم هو الاقتصاد والتكنولوجيا، لأنهما باتا يشكلان عصب العلاقات المبنية على معادلة المصالح المشتركة التي تتحكم بمسار المواقف وحتى التحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين الدول.
البيت الأبيض حذّر من النفوذ الذي تحاول الصين تنميته حول العالم، فالناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي قال الأربعاء الماضي: «نحن مدركون للنفوذ الذي تحاول الصين توسيعه حول العالم».
وأضاف: إن الشرق الأوسط هو بالتأكيد من المناطق التي يرغبون في تعميق مستوى نفوذهم فيها، وإن طريقة سعيهم إليها، لا تتلاءم مع الحفاظ على النظام الدولي القائم الذي تحكمه قواعد محددة ولن نطلب من الدول الاختيار بين الولايات المتحدة والصين.
نشير إلى أن البيان الختامي للقمة الصينية السعودية تضمن جملة غاية في الأهمية، وهي التبادل التجاري في العملات المحلية اليوان الصيني والريال السعودي بمعزل عن الدولار الأميركي، وهذا هو مكمن الخطر الذي تخشاه أميركا لا بل هو الخطر الذي لا يمكن لأميركا تحمله، ويبقى السؤال هل تسلّم أميركا بالوضع الجديد أم إنها ستلجأ إلى عملية تخريب في المنطقة.
وفي مقارنة سريعة بين الدور الأميركي والصيني المحتمل نستنتج الآتي:
الصين لم تغز بلداً عربياً كما فعلت أميركا، ولم تفرض عقوبات اقتصادية على أي شعب أو دولة، ولم تقم ببناء قواعد عسكرية، ولم تسع لقلب أنظمة عربية، ولم تشارك في عمليات اغتيال شخصيات سياسية وعسكرية عربية، ولم تفرض هيمنتها السياسية على أي بلد كان، ولم تلزم أي بلد بشعار: إما معنا وإما ضدنا، ولم تسع لإبقاء بلادنا وشعوبنا العربية في حال الجوع والعوز والحرمان والتخلف كما تفعل أميركا، ولم تبن الصين علاقاتها مع الدول على قاعدة ما تملكونه من ثروات هو لنا والفتات لكم وما نملكه نحن هو للصين فقط كما فعلت وتفعل أميركا، بل إن الصين رفعت شعار التعاون مع الجميع على قاعدة رابح رابح.
نستطيع القول إن القمة الصينية- الخليجية العربية المشتركة التي انعقدت في الرياض، أسست لمرحلة جديدة في المنطقة والعالم قوامها إلغاء حصرية التحالف مع أميركا، والتوجه للبحث عن سبل تشبيك المصالح، وبناء تحالفات متعددة ولو مع الدول غير الحليفة وحسبما تقتضي المصلحة المشتركة، في كسر واضح للموانع والهيمنة الأميركية.
منذ عقود خلت كانت الشيوعية في أوجها، لكن في دول الخليج كانت تعتبر مجرد التلفظ بكلمة شيوعي هو بمنزلة النطق بالكفر أو الترويج للإلحاد، أما اليوم فالشيوعيون هم بضيافة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية في مشهد ينبئ بنظام عالمي جديد.