الشيعة بين فوضويّة القوة وغواية القوة
كتب نبيه البرجي في “الديار”:
في سهرة عند الوزير فؤاد بطرس، وكان من كبار رجال الدولة بابتعاده عن كل أشكال التبعية والزبائنية ، قال لي “اذا كان دخول السنّة دستورياً وبنيوياً في المعادلة اللبنانية قد استدعى حرباً أهلية، ما تراه يستدعي دخول الشيعة في هذه المعادلة” ؟
الظروف كانت مختلفة آنذاك. لا من يقول ان الشيعة اقتحموا المعادلة بالسلاح، ما جعل الدولة تترنج ثم تسقط على ذلك النحو التراجيدي (ومتى كانت هناك دولة ؟). الآن يقال أكثر حول القفز فوق السيادة، بالتفرد في خوض حرب قد تعرّض لبنان لامكان الزوال.
لن نعود كثيراً الى الوراء لنتحدث عن مأساة الشيعة، لا سيما شيعة الجنوب الذين يشكلون الأكثرية داخل الطائفة، حين وضعوا بين فدائيي ياسر عرفات ودبابات آرييل شارون، وبينهما قرارات مجلس الأمن التي يبدو أنها وضعت لتبقى، بغطرسة “الحاخامات”، على الورق.
بديهي أن يستشعروا في كل آن الخطر “الاسرائيلي” بأبعاده الايديولوجية والاستراتيجية أكثر من أي فئة لبنانية أخرى، بعدما كان المستشرق هنري كوربان قد رأى أن طريق الشيعة وعبر التاريخ هو طريق الآلام، وان كان معلوماً أنهم نقلوا طقوسهم العاشورائية عن مسيحيي ممالك الفولغا. الشاه الصفوي طهمساب كان قد أوفد بعثة الى تلك الممالك للتعزية بالجمعة العظيمة، ثم ليخبروا الشاه لدى عودتهم عن الطقوس التي تمثل صلب السيد المسيح وما يصاحبها من تعذيب للذات، فكان أن أمر بتطبيق تلك الطقوس في ذكرى عاشوراء، لتنتقل الى لبنان عبر طبيب ايراني يدعى بهجت ميرزا.
أوديسه الآلام، حتى في لبنان، وحيث تتالت حلقات القتل والتنكيل والترحيل على أيدي كل الغزاة دون استثناء، ليتبلور وليتعمق أكثر فأكثر مفهوم “المظلومية”، وان كان كوربان صاحب كتاب “التشيّع في ايران”، قد دعا الى الاغتسال من التاريخ، وهو من لاحظ أنه أثناء القرن التاسع عشر ونشوء “المسألة الشرقية”، أن كل طائفة في لبنان كانت تسند ظهرها الى أمبراطورية ما، باستثناء الشيعة الذين “ربما لم يجدوا سنداً حتى في أمبراطورية السماء”!
من دحروا القوة التي لا تقهر عام 2000، ومن قاتلوا اسطورياً في حرب 2006 ضد “اسرائيل”، التي تحظى برعاية الغرب لها (الغرب الذي لا ينظر الى الشرق الا كونه بلاد ألف ليلة وليلة)، حولوا المظلومية من “حالة تاريخية” الى “حالة ايديولوجية”، وهم من يرون في أنفسهم الثائرين الأبديين ضد الظلم والظلامة.
لعل مشكلة الشيعة في لبنان مثل مشكلة أي طائفة أخرى ، الوجود داخل دولة طوائفية، طوائف ضد بعضها البعض، ودون أن يكون “الميثاق الوطني” أكثر من نص اطار فارغ حتى اذا وضعت وثيقة الطائف، كخارطة طريق الى دولة لاطائفية، مضى ملوك الطوائف بطوائفهم في اتجاه معاكس كلياً، ليشعر الشيعة بالهاجس “الاسرائيلي” الذي لم يتراجع يوماً، ومع انطلاق عمليات التطبيع في المنطقة أنهم مهددون حتى بوجودهم.
يدركون ما هي النظرة اليهودية الى الجنوب، من سفر حزقيال وحتى مراسلات دافيد بن غوريون وموشيه شاربت عام 1954، ومن خارطة زئيف جابوتنسكي الى خارطة بنيامين نتنياهو، لتنقلهم التطورات من “فائض الضعف” الى “فائض القوة”.
لا ندري لماذا سميّت المقاومة، وهي مقاومة لبنانية (وعروبية) المقاومة الاسلامية. لكأنه الرهان على ايقاظ من لن يستيقظوا حتى يوم القيامة، في تلك البلدان الاسلامية (بالتسمية الافتراضية). كل الذين يقاتلون وكل الذين سقطوا، ينتمون الى هذا التراب الذي ينتمي اليه أبناء الطوائف الأخرى، وأبناء التوجهات الأخرى.
ما نراه من مشاهد شاذة، وان كان الكثير منها لا يقتصر على البيئة الشيعية، ليس فقط تعبيراً عن فائض القوة، وانما أيضاً عن غواية القوة بالتداعيات الدرامية، بل وبالتداعيات الكارثية على الشيعة أنفسهم.
اطلاق النار حتى ابتهاجاً بولادة عنزة. تبادل القذائف الصاروخية بسبب أفضلية السير، وان كانت الأضواء على الضاحية كاختزال للفسيفساء الشيعية، وحيث أكثرية أهلها يتسمون بالدماثة واحترام الآخر.
معاناة مدمرة بفعل أولئك الذي يستغلون فرصة انهماك المقاومة في مواجهة أعتى قوة في التاريخ، ليمارسوا كل اعمال التشبيح والبلطجة، لتكون النتيجة هكذا : الشيعة ضحايا الشيعة. هنا الخطر الذي يفوق أي خطر آخر.