السيد محسن شكر… «قائد الحرب» وشهيدها
كتب حسين الأمين في “الأخبار”:
لم يكن علي شكر صاحب مال أو سلطة، بل كان فقيراً من سكان «أحزمة البؤس» على أطراف بيروت، تحديداً في محلّة الأوزاعي، عند مدخلها الجنوبي. كان كادحاً، يكابد مصاعب الحياة بعناد شديد، أورثه صلابة وقسوة ستتركان لاحقاً آثاراً واضحةً على ابنه فؤاد. «كان يخشى أن ألتحق بأحد الأحزاب خلال الحرب الأهلية، إذ كان يعلم أنّي أحمل السلاح وأتحمّس للقتال، فقرّر إرسالي مع بقية أفراد العائلة إلى النبي شيت لإبعادنا»، قال «السيد محسن» لـ«الأخبار» في مقابلة معه قبل عامين، لمناسبة «أربعينية حزب الله». عاد فؤاد إلى بيروت، تحديداً إلى الأوزاعي والضاحية الجنوبية نهاية السبعينيات، في مرحلة انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني، واعتقال الشهيد السيد محمد باقر الصدر في العراق واغتياله. أثّر الحدثان في شخصيته وتوجّهاته، وسرعان ما وجد نفسه بين مجموعة من المتأثّرين بالثورة الإسلامية، والغاضبين من اغتيال الصدر، من بينهم الشهيدان القائدان عماد مغنية ومصطفى بدر الدين.
بعد سنوات قليلة، عام 1982، سيجتاح العدو الإسرائيلي لبنان. مع تقدّم دباباته من الجنوب، أصدر الإمام الخميني فتواه الشهيرة بـ«وجوب قتال إسرائيل»، وعقب ذلك «وصل إلى مسجد الأوزاعي 36 شاباً مسلّحاً (…) اجتمعنا وقرّرنا أن يكون مسارنا بالكامل هو قتال إسرائيل». من بين هؤلاء، اصطحب فؤاد شكر 12 شاباً إلى منطقة خلدة، حيث تقع مواجهة بطولية تصدّت فيها المجموعة لقوات العدو المتقدّمة. «وزّعتهم عند جسر خلدة، وقلتُ لهم: سنتقدّم ولن نعود أحياء، ابقوا أنتم هنا وقاتلوا الإسرائيليين حين يصلون». يقول أحد من عرفوه ورافقوه في تلك المعركة، «كان السيد قائداً واستشهادياً منذ الأيام الأولى. لم يتدرّج في القيادة، بل بدأ قائداً». يومها، سُجّلت القصة التي كانت معروفة من دون أن يُعرف بطلها. حين خرج صحافيون من فندق في خلدة، وكانوا يصوّرون المعركة مع جنود العدو، سألوا الشباب المسلّحين عن هويّتهم، فقفز فؤاد من بينهم وصرخ: «نحن الخمينيّون». وبالفعل، لم يعرف فؤاد شكر، الخمينيّ والاستشهادي والقائد، بعد ذلك اليوم، عملاً سوى المقاومة وقتال إسرائيل وأعوانها.
في تلك الفترة، زار السيد فؤاد مدينة صور، وعاد ليروي غاضباً لرفاقه من المقاومين، أن «الإسرائيلي مرتاحٌ في الجنوب، ويسبح جنوده على شاطئ المدينة». وسأل: «أيعقل أن نقاتل الإسرائيليين هنا وهم مرتاحون هناك؟». على الفور، بدأ الإعداد لعملية تفجير مبنى الحاكم العسكري التي نفّذها الاستشهادي أحمد قصير في المدينة (1982)، وتولّى السيد فؤاد والحاج عماد، مع آخرين، التخطيط والتجهيز لها ومتابعتها حتى لحظة التفجير. كما كان شكر من أوائل من بدأوا التفكير والتخطيط لأسر جنود إسرائيليين بهدف مبادلتهم بمقاومين وقعوا بالأسر. وهو حاول بنفسه تنفيذ عملية أسر في منطقة الجية، أثناء حصار بيروت، إلا أن العملية فشلت، إذ قُتل الجندي الأسير ولم يكن ممكناً نقل جثته إلى بيروت.
أشرف بنفسه على عملية أسر جنديين إسرائيليين في بلدة كونين عام 1986، قادها الشهيد سمير مطوط، أحد أفراد مجموعة السيد محسن الأولى، والذي بقي يذكرُه ويروي صفاته وبطولاته حتى آخر أيامه.
تولّى موقع المسؤول العسكري المركزي الأول لحزب الله، منذ عام 1985 إلى منتصف التسعينيات. وخلال قيادته، انتقلت المقاومة من العمليات المحدودة بداية، ثم الاستشهادية التي أشرف على غالبيتها بنفسه، إلى العمليات النوعية كاقتحام المواقع وأسر الجنود، وبناء القدرات التسليحية النوعية، وكانت بدايتها في الصواريخ المضادة للدروع، ثم صواريخ «كاتيوشا».
بعد ذلك، انتقل السيد محسن إلى مرحلة جديدة من «بناء القدرة»، وأشرف بنفسه، حتى شهادته، على بناء القدرات التسليحية النوعية والاستراتيجية للمقاومة. وأشرف مع الشهيد حسّان اللقيس على ملف المُسيّرات والصواريخ الاستراتيجية والدقيقة، وكانت له البصمة الأكبر والأوضح. كما شارك الشهيد في كل المراحل في صياغة الخطط التكتيكية والاستراتيجية، وإعداد البرامج التدريبية والعسكرية، وكان يهتمّ بأن يحضر قدر الإمكان في معسكرات وكليات التدريب، ليتحدّث إلى المقاومين ويشرف على تخريجهم من الدورات.
في «طوفان الأقصى»، قاد الشهيد السيد العمليات العسكرية على جبهة الإسناد اللبنانية منذ بداياتها، ويصدق القول فيه إنه كان «قائد الحرب»، وإن كان حريصاً – في آخر أيامه – أن يوضح دائماً أن «ما يجري الآن ليس حرباً كاملة، وأن فيها ضوابط وقيوداً كثيرة، وأن في الحرب الكاملة سيرى العدو ما كان يتوقّعه، وما لم يكن يخطر في باله أيضاً». كان السيد يقرأ إسرائيل ككتاب مفتوح، وكان في إمكانه أن يعدّد، في جلسة واحدة، كل ما يحويه الكيان من تجمّعات سكانية كبرى ومناطق صناعية وتجارية وزراعية، إضافة الى طبيعة السكان المستوطنين في كل منطقة، وأصولهم وعاداتهم ومعائشهم. وفي الجلسة نفسها أيضاً، كان قادراً على تفنيد كل المنظومة العسكرية الإسرائيلية الهائلة، وتقسيمها إلى طبقات ومستويات، وتعداد مكامن ضعفها وقوتها، وسيدلّك على أهم القواعد والمواقع والمطارات العسكرية في الكيان، وسيؤكّد لك، بثقة كاملة ولغة جادّة ونظرة حادّة، أن المقاومة تمتلك كل القدرة على ضرب كل هذه الأهداف، فقط «حين يأمر سماحة السيد».