السودان بين التسوية.. والتشظي
كتب الياس فرحات:
لم يكن الصدام الذي وقع في السودان في نيسان/أبريل الماضي مفاجئاً لمتابعي الشأن السوداني في العقود الأخيرة، فهذا البلد يختزن انقسامات اثنية ودينية وقبلية طالما تحركت منذ استقلاله عن مصر عام 1956.
لنبدأ من عند إنقلاب جعفر النميري على النظام المدني عام 1969 بالتعاون مع الشيوعيين السودانيين. بعد نحو سنتين، اتهم النميري الشيوعيين بمحاولة الإنقلاب عليه وأعدم رفاقه في قيادة الإنقلاب، وأبرزهم هاشم العطا وفاروق حمدنا الله. ثم أعدم القائد التاريخي للحزب الشيوعي السوداني، عبد الخالق محجوب. في العام 1977، تصالح النميري مع رئيس حزب الأمة الصادق المهدي، المعروف بأصوله الصوفية. في العام 1983، أعلن النميري تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاده؛ ولم تستثنِ لا المسيحيين ولا الوثنيين؛ وذلك في محاولة لإسترضاء التيارات الدينية، وأهمها حركة الإخوان المسلمين. لكن المسيحيين والوثنيين رفضوا هذه الخطوة، وبدأت القلاقل والاضطرابات في جنوب السودان، وهبَّت رياح التقسيم. في العام 1985، غادر النميري السودان للعلاج في الولايات المتحدة، فتحركت القوى الشعبية للإطاحة بحكمه بعد تردي الوضع الاقتصادي واندلاع الفتنة في جنوب السودان. سيطرت القوات المسلحة على السلطة بقيادة اللواء عبد الرحمن سوار الذهب، الذي أشرف على انتخابات ديموقراطية، وسلم السلطة للحكومة المدنية المنتخبة، وتنحى عن جميع مهامه بعد سنة، وذلك في خطوة ندُر أن يقوم بها الضباط في تاريخ الإنقلابات العربية. لم تتفق القوى السياسية في ما بينها، وعرقلت خلافاتها عملية التنمية والنهوض، فكان رد العسكر بقيادة عمر حسن البشير بالسيطرة على السلطة عام 1989، وهذه المرة بالإشتراك مع الإخوان المسلمين. كان الزعيم الإخواني ورئيس مجلس النواب، حسن الترابي، شريكاً للفريق البشير في السلطة.
السباق الحاسم حالياً في اللوجستية … ومن يسبق ويوفر الإمكانات يمكنه الصمود لأطول فترة
أدى تصاعد نفوذ “الإخوان” إلى مزيد من الاضطرابات في جنوب السودان. وبعد عشر سنوات من انتصار “ثورة البشير- الترابي”، حاول الترابي؛ بصفته رئيس مجلس الأمة؛ سنّ قانون دستوري يُجيز إقالة رئيس الجمهورية بالتصويت في مجلس النواب. عندها، قرَّر البشير إقالة زميله من منصبه، وانفرد في الحكم. أُعتقل الترابي، ثم أُطلق سراحه. وفي العام 2004، عاد البشير وأمر باعتقاله بعد محاولة ضباط من الإخوان المسلمين الإنقلاب عليه (توفي الترابي في العام 2016). الدعم السريع وحميدتي تراجعت الثقة بين الرئيس البشير والمؤسسة العسكرية، خصوصاً بعد إعلان جمهورية جنوب السودان. تكرَّر الفشل في معالجة اضطرابات إقليم دارفور، ما دفع البشير الى الاعتماد على قبائل البدو بقيادة موسى هلال، وبعدها بقيادة محمد حمدان دقلو؛ المعروف بـ”حميدتي”، من خلال إنشاء ميليشيات عُرفت بـ”الجنجويد”، ارتكبت مجازر بسكان دارفور، ما أدَّى الى اتهام البشير وعدد من ضباطه بارتكاب ابادة جماعية في دارفور وملاحقتهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية. أنشأ البشير، رسمياً، قوات الدعم السريع من ميليشيات الجنجويد التي قاتلت في دارفور واعتبرها؛ مثل الجيش؛ جزءاً أساسياً من القوات المسلحة السودانية. كان البشير يُخطّط للاعتماد على “الدعم السريع” لدعم حكمه في مواجهة احتمال الإنقلاب عليه من مؤسسة الجيش التي لم يكن يثق بها. شارك “الدعم السريع” ضمن التحالف العربي في حرب اليمن. أصدر البشير قرارات بترقية حميدتي إلى رتبة فريق، ومنح بعض قادته رُتبّاً عسكرية برغم أنهم لم يتلقوا تعليماً عسكرياً أكاديمياً، ومعظمهم حصل على درجة التعليم المتوسط.. وما دون. في العام 2019، اندلعت انتفاضة شعبية ضد حكم البشير، فما كان من حميدتي إلَّا أن تخلى عن دعمه للبشير، واتفق مع قائد الجيش، اللواء عبد الفتاح البُرهان، على الإطاحة به، وتشكيل مجلس سيادة برئاسة البرهان على أن يكون حميدتي نائباً له. جاء الإنقلابيون برئيس وزراء من قوى التغيير، هو عبد الله حمدوك، لكنهم سارعوا إلى الإطاحة به. في العام 2022 توصل الفريقان المشاركان بالسلطة، البرهان وحميدتي، إلى إتفاق إطار هو بمثابة “خارطة طريق” تُمهد لإتفاق نهائي، وتشكيل حكومة تصريف أعمال وإجراء انتخابات عامة بعد 24 شهراً. بقيت فقرة دمج قوات “الدعم السريع” بالجيش عالقة. البُرهان يريدها لمدة سنتين وحميدتي لعشر سنوات. سُرعان ما انفجر الخلاف بين الفريقين، وبدا السودان تحت سيطرة قوتين مسلحتين متنافستين: الجيش النظامي السوداني جيش عريق فيه قيادة وسيطرة ووحدات برية وبحرية وجوية. أما قوات “الدعم السريع” فهي تنظيم شبه عسكري يعتمد الوحدات المتوسطة (فوج)، وقد ازداد عددها منذ إنشائها من 17 الفاً إلى أكثر من مائة ألف.
يصعب التوفيق بين البُرهان وحميدتي من دون تدخل إقليمي ودولي .. وإذا طال النزاع ونجحت الحركات الإنفصالية ستكون النتيجة كارثية على مصر والسعودية وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان
كان من المقرر البدء بتنفيذ إتفاق الإطار في شهر نيسان/أبريل 2023، لكن في الخامس عشر من الشهر نفسه انفجر الصراع العسكري بين الفريقين في الخرطوم وبعض المناطق السودانية.
أبعاد النزاع إقرأ على موقع 180 ديفيد أغناسيوس: نسخة جديدة لشرق أوسط يُعيد بناء نفسه البُعد الأول: بين المجتمع المدني والجيش، وفي معظم الأحيان تكون الغلبة للجيش الذي حكم لستة عقود متتالية. البُعد الثاني: لا شك أن المجتمع المدني يتمتع بحيوية عالية ويمكنه حشد أكبر عدد من الجماهير. لكن بعد نجاح الثورات، تُظهر الأحزاب المرتبطة بالتيارات الصوفية، مثل حزب الأمة وحزب الاتحاد، عجزاً عن تحقيق حكم مستقر، وكثرت الأزمات السياسية. عجز المدنيون عن تحقيق الإستقرار السياسي، وعجز العسكريون عن تحقيق الأمن، فانفصل جنوب السودان. البُعد الثالث: داخل القوات المسلحة.. وغالباً ما تنشب نزاعات داخلية بسبب تعدد القوميات والأديان. المؤسسة العسكرية لها رأسان: البُرهان على رأس الجيش الذي يسيطر على قطاعات اقتصادية تُدر نحو مليار دولار. وقوات “الدعم السريع” برئاسة حميدتي التي تسيطر على مناجم الذهب. المصير المحتم للرأسين هو الصدام كما يجري حالياً. البُعد الرابع: تعدد الأديان والقوميات يهدد دائماً بالانفصال. هناك عدد من الأقاليم فيها حركات انفصالية، مثل حركة عبد الواحد نور في شمال دارفور، وهناك مكتب لحركته في باريس.
وحركة عبد العزيز الحلو في جنوب كردفان. ملاحظات عسكرية من المفترض أن يكون الجيش السوداني هو المتفوق، لكن المجريات القتالية أظهرت عدم جهوزية هذا الجيش لمواجهة تمرد قوات “الدعم السريع”. لاحظنا أن الجيش لم ينفذ أي عملية عسكرية هجومية تقليدية، ولم يقم بانزال قوات خاصة في أي من مناطق السودان. وكان اللافت للإنتباه أن الجيش بدا حريصاًً على عدم تضرر المدنيين في الخرطوم، إذ كان بإمكانه شنّ هجوم في مناطق أخرى وإحراز نجاح يعطيه زخماً معنوياً. القوات الجوية السودانية تبدو على جهوزية محدودة وبعيدة عن أن تكون بحالة جهوزية عالية، كما هو مُفترض في هكذا ظروف. وقد نفذت غارات محدودة جداً، ولم نشهد تمهيداً جوياً لهجوم برّي. بالمقابل، تعتمد قوات “الدعم السريع” على الحركية و”الكر والفر” والقتال عن بعد من دون مهاجمة أي هدف محدد واحتلاله.
الأزمة السودانية عميقة في تكوينها، وإذا لم تحصل تسوية فإننا أمام احتمال تشظي النزاع إلى الجوار القريب وربما البعيد لذا، يستمر القتال في بقع ضيقة لكنها حسَّاسة، مثل القصر الجمهوري ومبنى قيادة الجيش. الفريقان موجودان في المقرين، ويطلقان النار والصواريخ على بعضهما البعض من دون أن يتقدم أحدهما نحو الآخر. متى ينتهي النزاع؟ السباق الحاسم حالياً في اللوجستية من أسلحة وذخائر، وطعام ومياه، ووقود وآليات، وعناية طبية، وأجهزة اتصالات وقيادة. من يسبق في اللوجستية ويوفر الإمكانات يمكنه الصمود لأطول فترة. هناك حالة مختلفة في مطار مروي، حيث سيطرت قوات “الدعم السريع” عليه بشكل مفاجئ، ثم عرضت صوراً لأسرى من الجيش المصري، وبعدها نشرت وسائل الإعلام خبراً عن عودة العسكريين المصريين إلى بلادهم. ثم عاد الجيش إلى مطار مروي. يتضح من هذه الوقائع أن اتصالات سياسية حكمت الموقف في مروي، بما فيها انسحاب “التدخل السريع” وعودة الجيش. من الصعب التوفيق بين البُرهان وحميدتي من دون تدخل قوى إقليمية ودولية وازنة، وهذا ما لم تظهر ملامحه بعد، إذ أن هذه القوى تكتفي بإجلاء رعاياها والحفاظ على مصالحها.
لا يمكن للجيش السوداني أن يُنهي القتال ويسمح بوجود ميليشيا تشاركه الأمن والسلطة. على المدى البعيد تكون الغلبة للجيش، لكن إذا طال النزاع فان الحركات الإنفصالية سوف تجرؤ على إعلان الإنفصال، وستكون نتيجة ذلك كارثية على مصر والسعودية وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان أيضاً. الدور الإسرائيلي فاجأ وزير الخارجية الإسرائيلي، ايلي كوهين، الرأي العام عندما دعا البُرهان وحميدتي إلى إسرائيل للتفاوض والتفاهم. تبدو إسرائيل مزهوة بالقتال الذي يجري في السودان حالياً، وتعبّر من خلاله عن ترف النفوذ. إذا دقّقنا جيداً نجد أن النفوذ الإسرائيلي المزعوم لم يحصل بقوتها الذاتية. من المعروف أن السودان بعد سقوط البشير سعى إلى فكّ الحصار الدولي وإلغاء العقوبات، وخصوصاً الأميركية، لكن جواب واشنطن كان “إذهبوا إلى إسرائيل، ورتّبوا أوضاعكم معها”. هذا ما حصل في ألبانيا وكوسوفو في البلقان، وهذا ما يحدث حالياً في القوقاز مع أذربيجان، وفي آسيا الوسطى مع تركمانستان. الأزمة السودانية عميقة في تكوينها، وإذا لم تحصل تسوية فإننا أمام احتمال تشظي النزاع إلى الجوار القريب وربما البعيد.