رفعت ابراهيم البدوي
كتب توماس غراهام وراجان مينون، مقالة مشتركة في مجلة «فورين أفيرز» الأميركية تناولا فيها إمكانية إحراز السلام بين روسيا من جهة، وأوكرانيا والغرب من الجهة المقابلة، وكيفية صنع هذا السلام.
يضيف الكاتبان، رغم ظهور مقاومة أوكرانية شديدة، لم تكن متوقعة من الجانب الروسي، وعقوبات قاسية فرضت على روسيا من غرب موحّد وبشكل غير مسبوق، إلا أن تحقيق نصر أميركي غربي مُرضٍ على روسيا يبدو أنه بعيد المنال، ولا شيء يشير إلى أن بوتين على وشك التراجع، فهو ضاعف هجومه وعلى الصعد العسكرية وحتى الاقتصادية، في إشارة واضحة إلى تصميم روسيا على تحقيق أهدافها الرئيسية، ليس في أوكرانيا فحسب بل في ضمان التوجه الجيوسياسي لأوكرانيا مستقبلاً، وأيضاً لمعالجة مخاوف موسكو الأوسع بشأن الهيكل الأمني في أوروبا.
وتحت عنوان «ينبغي استمرار التفاوض» اعتبر الكاتبان أنه رغم النتائج الهزيلة لجولات التفاوض بين روسيا وأوكرانيا، ينبغي الاستمرار بالتفاوض من أجل التوصل إلى تسوية تنهي هذا النزاع الخطر، فأوكرانيا والغرب سيحتاجان إلى تحديد التنازلات التي يمكنهما تقديمها لحض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وقف حربه وسحب قواته من أوكرانيا، ومع ذلك، وبغض النظر عن مثل هذه التهدئة، فانه يجب على حكومة كييف وشركائها، التفكير في تهدئة بوتين من خلال تحقيق المطالب الروسية واستعدادهم للتنازل، لإبرام صفقة تضمن استبعاد انضمام كييف إلى حلف الناتو، ومنع توسّع الحلف في الفضاء السوفياتي السابق، لكن روسيا في المقابل سيتوجب عليها قبول أوكرانيا المحايدة، مع احتفاظها بعلاقات أمنية وثيقة مع الغرب.
بناء على ما تقدم في مقال الكاتبين، يبدو أن الولايات المتحدة والغرب، قد وضعوا أنفسهم أمام خيارات محدودة، فانضمام أوكرانيا إلى الناتو قبل العملية العسكرية الروسية، كانت غير قابلة للتفاوض بالنسبة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لكن تصريحاته الأخيرة أعادت الحياد إلى الطاولة، وهذا ما ثبت من خلال جولة التفاوض الأخيرة بين الجانبين في تركيا، ما يتيح المجال لإغلاق باب الناتو أمام الدول السوفياتية السابقة الساعية للحصول على العضوية.
في مقابل ذلك، دأبت الولايات المتحدة وحلفاؤها ولاسيما بريطانيا، على إرسال الأسلحة الفتاكة إلى أوكرانيا، لأجل إطالة أمد الحرب فيها، وبهدف إنهاك روسيا عسكرياً واقتصادياً غير عابئين بمطالبها المشروعة، فالرئيس بوتين بدأ هذه الحرب ليس من أجل تحقيق مكاسب آنية، بل لأجل تحقيق توازن عالمي جديد، وهو مصمم على بلوغ هدفه، فبرغم العقوبات القاسية على روسيا فإن تلك العقوبات لن تنهي الحرب، كما أنها لن تردع بوتين عن تحقيق أمن روسيا القومي مهما كانت التضحيات.
إن السجل التاريخي للدول المستهدفة من العقوبات الأميركية الغربية، أثبتت أن العقوبات لم تكن يوماً ذا جدوى فاعلة على هيكل الدولة المستهدفة، بقدر ما هي عقوبات تستهدف تجويع الشعوب وحرمانها من التقدم ومن أبسط مستلزمات العيش الكريم، تماماً كما هو الحال في فنزويلا وكوريا وإيران وسورية والعراق ولبنان.
إن القادة التاريخيين في روسيا وسورية وإيران وكوريا الديمقراطية وفنزويلا، أثبتوا من خلال مواقفهم الوطنية الصلبة، الرافضة للإملاءات وللعقوبات الأميركية الغربية، أن لا شيء يمكنه حرمان الدول والشعوب من الصمود بوجه أي عقوبات اقتصادية، وذلك دفاعاً عن المصلحة الوطنية وعن الأمن القومي الحيوي لبلادهم، تماماً كما هو الحال مع بوتين اليوم، ولقد أثبتت تجارب أولئك القادة والشعوب، عدم تورطهم بالفساد والرشوة الأميركية، واستعدادهم لدفع ثمن اقتصادي باهظ بصمود أسطوري، مقابل تحقيق أمن وحرية واستقلال قرارهم الوطني والسيادي.
قد لا تنتهي الحرب قريباً في أوكرانيا، بيد أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين لن يكون بإمكانهم الصمود ولا وقف صراخ أوروبا المنكوبة، وعلى الرغم من فتح أميركا لأبواب مخازنها الإستراتيجية من الطاقة، إلا أن هذه الخطوة لا تعدو كونها دواء مسكناً لمرض عضال لا شفاء منه، فأوروبا تصرخ من أسعار الطاقة والبنزين الآخذة في الارتفاع، وكذلك تكلفة القمح، وخصوصاً أن روسيا وأوكرانيا تعدان من كبار المصدرين، ومن المتوقع ازدياد التضخم، وانخفاض معدلات النمو، الامر الذي يعرّض الاقتصاد العالمي وخاصة الأوروبي لكوارث غير متوقعة، وقد يؤدي إلى تفكك في البنية السياسية للاتحاد الأوروبي.
إن قرار الرئيس الروسي بوتين، بمنع تزويد الدول غير الصديقة بالطاقة الروسية، إلا بعد سداد ثمنها بالروبل الروسي، فجّر قنبلة اقتصادية نووية لم تتوقعها أميركا ولا أوروبا، فقرار بوتين قلب المعادلات التي كانت سائدة، كما أنه حوّل العقوبات الأميركية الغربية المفروضة على روسيا، إلى فرصة تاريخية جدية وإيجابية، وهذا ما صرح به دميتري بيسكوف الناطق باسم الكرملين حيث قال:
إن العقوبات الغربية على روسيا، دفعتنا للبحث عن بدائل إستراتيجية، والاتكال على الذات في الإنتاج والصناعة وفي تعزيز قدراتنا الذاتية وتقوية العملة الروسية، دون التطلع لأي مردود من الخارج، وهذا لم نكن منتبهين له في السابق، وهذه الخطوات التاريخية، ستجبر الغرب على الصحو من سكرته.
إن قرار بوتين بيع الغاز والطاقة بالروبل الروسي، لا ينطوي على تعويم أو تحسين سعر الروبل الروسي، بيد أن هذا القرار سيكون من شأنه تقديم أوراق اعتماد للدول المصدرة للطاقة والنفط، بأن يحذوا حذو الرئيس بوتين في بيع منتجاتهم بالعملة المحلية، الأمر الذي سيترك آثاراً كارثية على مستقبل إمبراطورية الدولار الأميركي في العالم.
إن بيع الغاز الروسي بالعملة الروسية سيدفع بالدول المنتجة للطاقة بيع منتجاتها بعملتها المحلية، وأول الغيث أتى من المملكة العربية السعودية، التي ألمحت إلى نيتها البدء ببيع نفطها بعملات أخرى غير الدولار الأميركي، ولا ننسى رغبة إيران المزمنة بيع نفطها بعملتها المحلية بانتظار انتهاء مفاوضات جنيڤ، ما يتيح المجال في البحث عن بدائل جدية تقود إلى التداول بسلة من العملات بين الدول، بدلاً من سطوة الدولار الأميركي الذي تحكم بإدارة اقتصاد دول الطاقة.
قرار بوتين يضعنا أمام فرصة تاريخية، يجب العمل على تعزيزها كخطوة بالغة الأهمية، تؤسس لإنشاء صندوق خاص بدول البريكس، يكون رديفاً لصندوق النقد الدولي، مكون من عملات كل من روسيا والصين وإيران والبرازيل والهند وباكستان، رأسماله سلة من العملات المحلية لتلك الدول، ليكون صندوقاً صديقاً للدول النامية، بديلاً عن صندوق النقد الدولي الذي لطالما كان الهدف منه تجويع الشعوب وإخضاع الحكومات المستدينة لمطالب أميركا والغرب.
على الرغم من نفي الرئيس الأميركي جو بايدن نيته الإطاحة بنظام بوتين، بيد أن إعلان الرئيس الروسي قرار بيع الغاز الروسي بالروبل، قد أطاح بنظام اقتصادي ليبرالي أميركي غربي متوحش، في خطوة تصحيحية للخلل الذي مكّن الغرب من التحكم بسياسات واقتصاد وثروات الدول، وبمستقبل الشعوب ردحاً من الزمن.