كتب انطوان الأسمر في “اللواء”:
يرفع التطور العسكري المتدحرج في سوريا الضغط على لبنان، ويزيد من احتمالات التأزم السياسي وربما الأمني والاقتصادي. فالنزوح لا يزال يُعدّ العامل الأخطر لبنانياً في مجتمع متفسّخ ومريض يشكو الهشاشة. لكن تضاف إليه حكما مخاطر عاملين:
١- استفاقة جماعات متطرفة في المنطقة الحدودية، خصوصا متى صار الاتصال واضحا ومباشرا مع المقاتلين الإسلاميين الذين باتوا على مشارف حمص.
٢- رفع حزب الله مشاركته العسكرية في سوريا، وهو أمر لا شكّ سيعيد التوتر المذهبي إلى عهد ما قبل حرب الإسناد.
وغنيّ عن توصيف الكارثة التي ستنتج حكماً عن هذين العاملين المتفجرين، متى اختلطا لبنانياً.
يحتّم هذا الواقع السوري المستجدّ واستتباعاته تبدّلا واقعيا في المقاربات المحلية يواكب المستجدّات الميدانية، وهي عن حقّ game-changer، والتسليم في الوقت نفسه بأن كل تطور في الخارج، على غرار ما يحصل في حلب وحماه وحمص وما بعدها، يُرجع لبنان خطوة إلى الوراء في سُلّم الاهتمام الدولي، ويحتّم عليه استطرادا مضاعفة الجهد المحلي من أجل تقديم حلول، كمثل وصفة جدية لإنهاء الفراغ الرئاسي تؤمّن التحصين المطلوب في مواجهات التحديات الداهمة. بهذا المعنى يصبح الاستحقاق الرئاسي أولوية لا تتقدم عليها أولوية. ويستوجب ذلك عدم إهمال ما هو متوفر من فرص لانتخاب الرئيس العتيد الذي يشكّل الرأس الهرمي للمشروع الوطني للبنان ما بعد حرب الإسناد، حيث يعوّل أن تستعيد الدولة الوطنية هويتها ودورها وفاعليتها.
وتبرز في هذا السياق حركة الاتصالات بين مختلف القوى السياسية والتي من المتوقع أن ترتفع وتيرتها في الفترة الفاصلة عن عطلتي الميلاد ورأس السنة لملاقاة جلسة ٩ كانون الثاني بأكبر قدر ممكن من التوافق الداخلي. لكن إلى الآن لم يتبيّن بعد مدى إمكان نجاح هذه المروحة من المشاورات، بالنظر إلى التشابك الحاصل محلياً وعند جانبيّ الحدود في إسرائيل كما في سوريا.
تُضاف إلى تلك التعقيدات رغبة الإدارة الأميركية المنتخَبة في إرجاء الحسم في الانتخاب الرئاسي إلى بداية الربيع حدّا أدنى، ربطا بتفضيلها أن يأتي الحل اللبناني من ضمن المشهد الإقليمي الذي يُعاد رسمه. ولم يترك الموفد الرئاسي مسعد بولس فرصة ليحض من يتواصل معهم من المسؤولين على التجاوب مع الرغبة الأميركية في تخطي وتجاهل جلسة ٩ كانون الثاني، كأنها لم تكن. يعكس رأي مسعد موقفا يتبلور تباعا داخل الفريق الرئاسي الأميركي يسند فيه إرجاء الحسم الرئاسي إلى مجموعة عوامل، منها ثلاثة رئيسية:
١- المشهد السوري الجديد الذي يحتاج إلى مزيد من الوقت لكي يثبت على واقع صلب. فسوريا المفيدة تنحسر معالمها تباعا، وسوريا غير المفيدة تتسع جغرافيا وسياسيا، حتى بات مصير الرئيس بشار الأسد موضع شك لدى موسكو نفسها، فيما الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لا يخفي رغبته في استكمال الحرب حتى إزاحة الأسد عقابا على عدم استجابته لدعوة اللقاء والتطبيع بين دمشق وأنقرة.
٢- المشهد الإقليمي الذي تريده الإدارة الجديدة على نسق ما وصل إليه مع نهاية الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، بدءا وليس انتهاء بالابراهيمية السياسية. هذا المشهد الذي تراجع في السنوات الأربع الفائتة وتتطلب إعادة بنائه تراصف مجهود أميركي- عربي- إسرائيلي، والأهم تخطيا لتداعيات الحرب في غزة على الأنظمة والشعوب في آن. وهو الأمر الذي لن يكون بالسهولة التي كان عليها سنة ٢٠٢٠. ويدخل في هذا السياق كذلك الموقف العربي من تأخر الرئيس السوري في تلقف اليد الممدودة للمصالحة والانسحاب تدريجا من مساحة التأثير الإيراني.
٣- المشهد الإيراني الذي هو الآخر قد يشهد تحوّلا دراماتيكيا. فتداعي الأذرع من لبنان إلى سوريا، واحتمال تمدد هذا التشتّت إلى العراق والحوثيين، سيصل حكما إلى إيران. فهل تكتفي واشنطن متى وصلت الرياح هذه المرة إلى مشارف طهران، بالدعوة إلى تغيير السلوك أم ستذهب أبعد وأعمق؟
في المقابل، ثمة جهات لبنانية تحضّ على انجاز الاستحقاق الرئاسي بالسرعة القصوى وبلا مزيد من التلكؤ، خوفاً من فقدان الزخم الدولي وانتقاله إلى سوريا، والذي ترجمه اتفاق وقف إطلاق النار والالتزامات بمساعدة لبنان على النهوض سياسيا واقتصاديا وإعماريا، فور اكتمال عملية إعادة إنتاج السلطة.
صحيح أن المشاورات الرئاسية المتجددة على المستوى المحلي لا تزال في بداياتها، لكن من الواضح أن القيادات السياسية لا تزال تتلمَّس الطريق رغبة منها في معرفة مدى ترابط الملف الرئاسي بتسوية وقف إطلاق النار، وإمكان أن يكون ثمة تفاهم دولي على اسم الرئيس العتيد لم تظهر بعد ملامحه لبنانياً. ولا تُخفى لائحة المرشحين المتقدمين والذين بات يتقاسمهم عدد من الدول، من غير أن تتضح بعد أفضلية مرشح على آخر.