بعد سقوط نظام بشار الأسد، توقّفت عجلة الدراما ولم يتمكّن أحد من العودة إلى التصوير لأيام عدة. اعتقد بعضهم بأن هذه المهنة ستصبح محرّمة في «سوريا الجديدة» التي يحكمها اليوم تيار إسلامي صدّر نفسه بداية بصيغة متشدّدة، فيما راح يجرّب منذ سنوات إيصال صورة معتدلة منذ تغيير اسمه من «جبهة النصرة» إلى «هيئة تحرير الشام»، ليصبح الخطاب بعد وصول زعيم هذا التنظيم (أبو محمد الجولاني) أحمد الشرع إلى السلطة وقيادته المرحلة الجديدة بمنطق سلطة الدولة وليس الفصيل الإسلامي المعارض.
هكذا، تبدّدت تلك المخاوف نوعاً ما في ما يخص حالة الإنتاج الدرامي، أو على الأقل أُجّلت حالياً، بعدما اجتمع منتجون ومخرجون سوريون لمرات عدة مع مستشارين إعلاميين من الهيئة في مبنى التلفزيون السوري وقالوا صراحة بأنهم يريدون أن يكملوا تصويرهم، فجاءهم الرد المفاجئ: ومن يمنعكم! ليعقّبوا بالقول: لكننا نحتاج دعماً لوجستياً وغطاء حكومياً وموافقات ورقية وحماية أمنية. قُطع عليهم الطريق بجواب مفاده أنّ الأولويات اليوم ليست للدراما! وهذا منطقي على اعتبار بأن المسؤوليات أمام الإدارة الجديدة في بلد منكوب وغارق اقتصادياً، وقد حُلّ فيه الجيش وأجهزة الشرطة، ستكون حتماً للخدمات الأساسية، وتوفير احتياجات المواطن الأولية، ثم الالتفات إلى مسائل مثل الدراما.
انتهى صنّاع «ليالي روكسي» من تصويره قبل سقوط النظام
لكنّها تكاد تكون الصناعة السورية الوحيدة في العصر الحديث، عدا عن ارتباطات شركات الإنتاج بعقود قد تكلّفها ملايين الدولارات شروطاً جزائية في حال الإخلال بموعد التسليم للمحطات الفضائية، وبعضها يحتاج إنهاء التصوير وأخذ وقت كاف للتسويق، ثم هناك آلاف الأسر السورية التي تعتاش من هذه الصناعة، بدءاً من النجوم والممثلين، مروراً بالفنيين وصولاً إلى منفذي الإنتاج، وموظفي الخدمة وغيرهم الكثير! تلك النقاط لا يعرفها مسؤولو الإدارة الجديدة، ولم يكن في بالهم كل ذلك. أمر جعلهم يمنحون موافقات شفهية بإكمال التصوير من دون قدرتهم على تأمين أي غطاء أو حماية لفرق التصوير تلك. اللافت أنّ المنتج الفني صلاح طعمة خرج من أحد تلك الاجتماعات وشرح لنا ما حدث معه، وهو ما سيثير حفيظة غالبية العاملين في الدراما السورية. يوضح طعمة بالقول: «الأكيد بأننا حصلنا على موافقات شفهية ومن ناحيتنا سنكمل تصوير مسلسل «حبق» (كتابة بلال شحادات وإخراج باسم السلكا بطولة: كاريس بشار ومهيار خضور وفادي صبيح…) وسنعتمد في الأيام المقبلة على تصوير المشاهد الداخلية السهلة نسبياً، لكن ما أحبطني هو نقاش دار بيني وبين أحد المستشارين، فبدأ يوضح منطقه في فرض محدّدات رقابية خطيرة جداً، ولا تتناسب أصلا ًمع صناعة الفن. إذا كان هذا الفكر هو الذي سيحكم عمل الدراما، فالأكيد أننا مقبلون على مرحلة محبطة». ويضيف طعمة: «وضّحت جزءاً مما حصل معي في تعليق على الفايسبوك، فأتاني اتصال من المستشار الذي دار النقاش بيني وبينه، ليسأل عن السبب الذي جعلني أكتب بهذه الطريقة رغم أننا أخذنا الموافقات الشفهية لإكمال التصوير، وهو ما جعلني أعيد صياغة ما كتبته موضحاً بأننا حصلنا على الموافقة لإكمال التصوير».
وبالفعل، بدأت الشركات تباعاً تستأنف تصوير أعمالها من بينها «حبق» ومسلسل «السبع ابن الجبل» (فكرة زكي مارديني ـ كتابة سيف حامد وفادي سليم الذي يتولى إخراج العمل) فيما لا يزال مصير مسلسل «بينتاليس» (سوريا الدولية سابقاً) معلقاً مع احتمال إغلاق الشركة أبوابها في سوريا.
يفيد المكتب الإعلامي في شركة «أفاميا» لنا بأنّ مسلسلهم «ليالي روكسي» (33 حلقة ــ تأليف: بشرى عباس ومعن سقباني وشادي كيوان ومحمد عبد العزيز الذي يتولى الإخراج) قد انتهى تصويره تقريباً قبيل سقوط النظام بثلاثة أيام، وقد أفاد العمل من بدء تصويره باكراً قبيل كلّ الأعمال السورية، ويعوّل منتجوه على كوكبة من النجوم الذين يلعبون البطولة على رأسهم: أيمن زيدان وسلاف فواخرجي ودريد لحّام ومنى واصف. كما يعوّلون على المزج الذكي بين الأجواء الشامية التقليدية الجذابة، والتعريج على قصة أقدم صالة سينما في دمشق وحكاية صناعة أوّل فيلم سوري، بالاتكاء على خبرة المخرج السينمائية واطلاعه الواسع على تاريخ الفن السابع. كذلك، ستُضاف إليه منكّهات تعدّ بمثابة قيمة فنية على رأسها الشارة التي كتب كلماتها ولحّنها غالب زيدان وغنّتها لينا شماميان، وهي محاكاة للأغنية التراثية الخالدة «يا طيرة طيري يا حمامة». علماً أنّ الأخيرة كتبها ولحّنها الشيخ أبو خليل القباني عام 1893 أثناء رحلته البحرية العائدة من أميركا إلى سوريا بعدما شارك مع فرقته في احتفال أقيم في شيكاغو في مناسبة مرور 400 عام على اكتشاف كريستوف كولومبوس العالم الجديد، وقد كانت فرقته تضم الفنانة أستيرا الحكيم الملقبة بـ «طيرة»، وقيل إنّه كان يحاكيها في كلمات هذه الأغنية. وقد لعبت دورها في «ليالي روكسي» النجمة المخضرمة منى واصف.
وقد صوّر جزء من المشاهد الخاصة بهذه الشارة في مصر، على أن تصوَّر بقية هذه المشاهد في الشام في الأيام الأولى من العام المقبل، فيما كانت الشركة قد باشرت بتصوير مسلسلها الثاني لهذا الموسم «ليلة الحنّة» (كتابة أحمد حامد وإخراج إبراهيم قاسم ـ بطولة مجموعة من نجوم الصف الأوّل السوري يعلن عنهم لاحقاً). ومن المتوقع أن يُستأنف تصوير العمل في الفترة المقبلة، وفقاً للرؤيا التي تحكم عمل الدراما في المرحلة الحالية. ينتمي المسلسل إلى البيئة الشامية وينطلق من عنوان عريض هو برّ الوالدين ليقدّم قصة شعبية ملحمية بحسب صنّاعه.
لكن ماذا عن الحكم القضائي الصادر بحق شركة «غولدن لاين» (نايف وديالا الأحمر) بعد توقيف صاحب الشركة قبل مدة بحجة التعامل بالدولار والحكم عليه بدفع تعويض وصل إلى قرابة 22 مليون دولار أميركي؟ يشرح مصدر من داخل الشركة يفضل عدم ذكر اسمه: «لم يتم تبليغنا بشيء حتى الآن، لكن المنطقي في هذه المرحلة الجديدة التي بات الجميع يتعامل فيها بالدولار علناً، أن يُسقط هذا الحكم، لكن الأمر لا يمكن أن يبنى على التنبؤات، وقد عدنا إلى التصوير مع انتظار وترقّب لما سيحدث مستقبلاً».
«كلاكيت» عائدة إلى الشام!
منذ اندلاع «الثورة السورية»، كان الخيار بأن تواكب شركة «كلاكيت» ما يحدث على الأرض، وتحضر بين الناس، وتنتج دراما تعكس جزءاً حقيقياً من الواقع. لكنّ صاحبها إيّاد نجّار تعرّض لـ «ابتزاز شخصي في بداية الأحداث من قبل ضعاف نفوس استغلّوا الظروف السائدة» وفقاً لما يشرح في حديثه معنا، مضيفاً: «حصل ذلك بسبب الفوضى التي حرص النظام السابق على تصديرها من أجل إخافة الناس. هكذا، اضطررت إلى شراء نصوص لا تلزمنا نهائياً وبأسعار مضاعفة تحت التهديد والوعيد، وسرعان ما اخترت السفر إلى الإمارات، وإكمال عملية إنتاج الدراما السورية من هناك، بالاتكاء على شراكة حقيقية مع «هيئة المنطقة الإعلامية الحرة» (TWOFOUR54). كما كنّا نجرّب إنجاز أعمالنا في لبنان كونه يملك بيئة جغرافيةً بديلةً لتجاور البلدين، وأنتجنا مجموعة من المسلسلات قاربنا فيها الهمّ السوري، ونعتقد بأننا حقّقنا نجاحات مذهلة رغم كل الظروف الصعبة، ومغامراتنا الإنتاجية التي جعلتنا ندفع تكاليف إنتاجية إضافية وربما مرهقة لأي منتج آخر. طبعاً هذه مسألة تمليها ضرورة تصوير عمل سوري بعناصر محلية خالصة، لكن من خارج البلاد. مثلاً حجوزات الطيران والأجور الفندقية، والكثير من التفاصيل الإنتاجية تعدّ فائضاً على ميزانية أي عمل، وأهمها استصدار إقامات طويلة الأمد في دولة الإمارات لكلّ الفنانين والفنيين والإداريين السوريين الذين كانوا يشتغلون معنا، من دون التفكير في تصنيفات حكمت الشارع السوري بين مؤيد ومعارض وفي وقت كانت فيه كل البلاد تقفل أبوابها في وجه هذا الشعب. مع ذلك، استمرّينا، بل نلنا شرف المبادرة وربما الاستشراف لما سيحصل عبر ثلاثية «الولادة من الخاصرة» (سامر رضوان ورشا شربتجي وسيف السبيعي). ثم في ظل مقاطعة المحطات للدراما السورية، أنتجنا مسلسل «غداً نلتقي» (إياد أبو الشامات ورامي حنا) وحققنا نجاحاً باهراً، وقدّمنا نموذجاً حقيقياً عن المجتمع السوري وما آلت إليه أموره عندما اضطر إلى أن يكون لاجئاً. وقد نال العمل إجماعاً شبه مطلق من الجمهور والنقّاد، لأننا كنا على تماس مع الناس وأكثر واقعية». أما عن خطط الشركة المستقبلية، فيقول المنتج السوري: «المعروف عني كمنتج معارض أنني حرمت من التصوير داخل سوريا، إلا عبر طرق وأساليب احتيال على النظام السابق بالمعنى الإيجابي لكلمة الاحتيال. هذا ما حدث في مسلسل «كسر عضم1» (علي صالح ورشا شربتجي) الذي صوّر في دمشق وهوجم بشدة من المغالين في تأييدهم للنظام السابق، لأنه يفضح الفساد في المؤسسات الأمنية، ولكنه في المقابل يقدّم نماذج إيجابية لكي تتوازن الاقتراحات الدرامية، وأجبرنا على تصوير الجزء الثاني بين لبنان والإمارات مع صنّاع جدد. لذا بعد هذا التغيير التاريخي، نحن في «كلاكيت» نتقاطع مع كل السوريين في هذه الفرحة العارمة، ونعتقد بأننا أمام مرحلة جديدة، لا نريد أن نستعجل بالحكم، لكن مبدئياً نعد خططنا للانتقال إلى سوريا مجدداً وفتح مكاتب رئيسية، وهي نفسها المكاتب التي لم تغلق وكانت تعمل بشكل دائم، لكن بطرق مواربة خشية على الناس الذين كانوا محسوبين على الشركة في سوريا. ونود أن نوسع هذه المكاتب ونبني استديوهاتنا الخاصة، وننطلق مجدداً من الشام ونستثمر الظروف الحساسة والمفصلية والتاريخية، لننجز دراما واقعية تشتبك مع أحوال الناس وقضاياهم الصغرى والكبرى». أما عن التاريخ الدقيق للعودة إلى الشام، فيقول: «لسنا مستعجلين لأننا نصور مسلسل «تحت الأرض- موسم حار» (كتابة شادي دويعر وسلطان العودة، وإخراج مضر إبراهيم، وبطولة مكسيم خليل وروزينا لاذقاني). سنكمل هذا العمل وننهي الموسم الرمضاني، وسنبدأ بالعودة إلى دمشق لإنجاز مجموعة من المسلسلات من داخل سوريا للموسم التالي، ولكن بعد أن تتبلور الأمور وتتوضح صياغة حالة الإنتاج الدرامي في المرحلة الجديدة».
أما عن سياسة الشركة القادمة، فيوضح بالقول «استطعنا مجابهة الحقبة الماضية والتعامل معها بذكاء وأنجزنا مسلسلات فضحت المؤسسات الأمنية، والتجاوزات التي كانت تحصل في مؤسسة الجيش وأثرنا الجدل والإشكال، ونريد أن نستمر بهذه الصيغة، ولكن بمنطق مختلف يعتمد على التسامح وفتح صفحة جديدة من قلب سوريا، من دون أن نتوانى عن فضح من تلطخت أيديهم بالدماء ومن عملوا مخبرين من دون التنازل عن السقف الرقابي العالي».
وسام كنعان- الاخبار