د.منذر علي أحمد
أصبحت الخوارزميات الحالية قادرة على فرض حظر وتقييد كامل للمحتوى المرتبط بالصراع. هذا الحظر مبرمج بشكل متحيّز لمصلحة العدو الصهيوني وأفكاره، ويمكن وصفه بالمتطرّف كونه يتجه على نحو كلّي إلى حذف أيّ دفاع أو دعم للقضية الفلسطينية
لو افترضنا جدلاً أنّ مارك زوكربيرغ أراد أن يبلغ سكان الكرة الأرضية بأنه سيذهب الآن لقضاء حاجته في الحمّام، هل يستطيع؟ بالتأكيد يستطيع، فهو قادر أن يبلغ بذلك نحو 2.895 مليار مستخدم نشط على الفايسبوك… وبالطريقة والآلية نفسيهما، هو قادر على منع وصول صرخات ونداء شعب يتعرّض لإبادة… فهو قادر على منع وصول ملايين الرسائل والتعليقات التي تناصر أو تدعم أو تتكلم عن إبادة وحصار وتجويع لشعب كامل كما يحصل مع الشعب الفلسطيني في غزة الآن، وإتاحة النشر لما يناسبه ويناسب سياسة ومصالح شركته.
لا شك في أنّ جميع مستخدمي الفايسبوك وإنستغرام التابعتين لشركة «ميتا»، يدركون ببساطة ما تقوم به إدارة تلك المنصات من تقييد وصول ورقابة متعمّدة على المنشورات الداعمة للقضية الفلسطينية والمواضيع المتعلّقة بها، في حين لا يطبق ذلك على العمليات الإرهابية التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي، ما يُضيء على المخاوف القائمة منذ فترة طويلة بشأن السياسة غير العادلة مع احتدام الحرب على غزة. حياد الشركة كان وما زال محل شك وانتقادات حقوقية، وازدادت تلك الانتقادات منذ أن عيّنت الشركة وكيلة وزارة القضاء الإسرائيلية السابقة المحامية إيمي بالمور في مجلس رقابة المحتوى لديها قبل أكثر من ثلاثة أعوام. بالمور هي أحد الأعضاء العشرين الأوائل في مجلس مراقبة فايسبوك، وهو أمر أثار الجدل حول موضوعية المجلس وموضوعية فايسبوك وانحيازه، وخصوصاً أنّها شغلت منصباً حكومياً، عسكرياً ومخابراتياً سابقاً وهي أول شخص بهذه الخلفية يُعيَّن في المجلس.
أثارت مسألة اختفاء القصص (الستوري)، حالةً من الغضب بين مستخدمي المنصتين جراء قيام الشركة بفرض رقابة متعمّدة على المنشورات الداعمة للقضية الفلسطينية. منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة، يشكو المتابعون والناشرون والمستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي من عدم ظهور قصصهم على فايسبوك. كما هو معروف، فهذه الخاصية التي أطلقها الموقع تسمح لك بمشاركة أغلى ذكرياتك، وسواء أمضيت الكثير من الوقت في تنظيم عمل فني أو تجميع صور أو غيرهما من المواضيع السياسية والعسكرية وترغب في نشرها، فإنك تُفاجأ بأن قصتك معلقة، أو أن بعض قصص أصدقائك لا تظهر لديك، وهكذا نحن نحصل على وصول أقل للمحتوى وبالتالي على مشاهدات أقل بكثير.
كما أن عملية البحث عن بعض الأسماء الناشطة أصبحت عملية صعبة، ناهيك بمسألة الحظر وتقييد الحساب ومنع النشر. ولم تعد عمليات الدعم التي يطلبها بعضهم بالتعليقات والمشاركات والإعجابات مجدية ونافعة أو تقدّم أي دعم.
تذكر تعليمات الفايسبوك أنّ على المستخدمين الالتزام بقواعده وعدم استخدام الكلمات المحظورة في المنشورات أو التعليقات، حتى لا يتعرضوا للحظر أو التقييد. كما يجب الالتزام بمبادئ «الاحترام والتسامح والتعاون» على شبكات التواصل الاجتماعي لتحقيق بيئة آمنة وملائمة للجميع. ولكن لا شك في أنّ هذه القواعد لا تطبَّق على الجميع، فالفايسبوك يحظّر ــ كما يدّعي ــــ المصطلحات والعبارات التي تتعلق بالكراهية والعنصرية والتمييز بين الأعراق والجنسيات، والتحريض على العنف والإرهاب، والإشارة إلى النصب والاحتيال والتحايل والخداع وإلى المواد المحظورة كالمخدرات والأسلحة والمواد الإباحية، إضافة إلى اللغة غير اللائقة والسباب والشتائم. ويذكر المسؤولون في الفايسبوك بأنّه يهتمّ بتحديث قائمة الكلمات المحظورة بشكل دائم وتوسيعها لتشمل المزيد من العبارات والمصطلحات التي تشكل تهديداً للأمان والسلامة العامة.
على ما يبدو، فإنّ الخوارزميات التي تستخدمها إدارة شركة «ميتا» خضعت لتطوير كبير في المدة الماضية، وخصوصاً بعد استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي للكشف عن الكلمات المحظورة وحظرها تلقائياً. إضافةً إلى ذلك، يدقّق المحتوى المنشور على الفايسبوك عن طريق فريق رقابة المحتوى الخاص بالشبكة. ويبدو أن فريق الرقابة ــ بالعقلية التي تحكم إدارته ــ هو المسؤول الرئيس عن السماح والحظر للمحتوى الذي يجده ويصنّفه على أنّه يتعارض مع معايير المجتمع الافتراضي الذي يتحكّم به. يبدو أن مسألة الحفاظ على السرية في تبرير ما يحصل من تقييد متعمّد للمحتوى، والتبرير بأنه يندرج ضمن قائمة «الأخطاء التقنية» هو مسألة متعمّدة. يجب توضيح الأمر: هل سببه العامل البشري في هذه الأدوات أم هو نابع من مستوى الأتمتة؟ أو أنّ السبب هو مشكلة في مجموعة التدريب؟ ببساطة ليس هناك وضوح في ذلك، بل غموض متعمّد.
أصبحت الخوارزميات الحالية قادرة على فرض حظر وتقييد كلي للمحتوى المرتبط بالصراع. ويبدو أن هذا الحظر غير عادل، لا بل مبرمج على نحو متحيّز لمصلحة العدو الصهيوني وأفكاره، ويمكن وصفه بالمتطرف كونه يتجه على نحو كلي إلى حذف أيّ دفاع أو دعم للقضية الفلسطينية. ولا شك في أن الخوارزميات تُعد قائمةً بالكلمات والعبارات والصور والخرائط والفيديوات والروابط التي تندرج ضمن المحظورات والممنوعات، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمحرقة ومعاداة السامية وفلسطين والمواضيع المتعلّقة بالمقاومة. أمر دفع الناشطين في المنطقة العربية إلى ابتكار أساليب للتحايل على الخوارزميات وتجنب رقابتها الآلية، عن طريق تبديل حروف الكلمة أو تقطيعها أو مدها أو استخدام رموز وأحرف إنكليزية، تجنباً للحظر الكلي للمحتوى، أو خفض مستوى وصول وانتشار المحتوى المرتبط بالصراع بهدف خداع الخوارزمية والتحايل عليها «بصورة شرعية».
لعل أبسط ما يمكن أن يُقال عن التبرير الذي اضطُرت شركة «ميتا» إلى تقديمه عن سياستها المتعمّدة بإسكات أصوات الفلسطينيين والأصوات المناصرة لقضيتهم وموقفها المنحاز لإسرائيل، بأنه عذر أقبح من ذنب. إذ ذكرت أنّ الأمر لا يتعدى مسألة كونه «خطأ تقنياً» رغم أن هذا الأمر سبق أن حدث في أيار (مايو) 2021 حين انخفض مستوى وصول المنشورات المتعلّقة بالشأن الفلسطيني. وقتها، عزت الشركة ذلك إلى أخطاء تقنية، وها هي اليوم تكرر الأعذار نفسها وتقول في بيان لها: «ليست نيّتنا أبداً قمع مجتمع معين أو وجهة نظر معينة، ولكن بسبب الكميات الكبيرة من المحتوى الذي يتم الإبلاغ عنه، فإنّ المحتوى الذي لا ينتهك سياساتنا قد يُزال بالخطأ». إضافة إلى ذلك، أرجعت الشركة بعض المشكلات إلى مواطن الخلل في نظام الإشراف الخوارزمي الخاص بها، ما أدى إلى تقليل وصول المنشورات بشكل متساوٍ في جميع أنحاء العالم بغض النظر عن الموضوع.
ليست هذه المرة الأولى التي ينتهك فيها فايسبوك -حاله حال المجتمع الدولي- حقوق الفلسطينيين. إذ خلُص تحليل مستقل أجرته commissioned Business for Social Responsibility (BSR) بعد أحداث أيار 2021 بتكليف من شركة «ميتا» نفسها، إلى أن الشبكات الاجتماعية انتهكت حقوق الإنسان الفلسطيني عبر فرض رقابة على المحتوى المتعلق بالهجمات الإسرائيلية على غزة. وجد التقرير أنّ «ميتا» فرضت قواعد أكثر صرامة عند التعامل مع المحتوى باللغة العربية ومقارنته بالمحتوى العبري في المدّة الزمنية نفسها. لكنّ التقرير ذكر أن هذا التحيز «غير مقصود» ويعود إلى خوارزميات اللغة العربية.
انتقادات لأداء ميتا منذ تعيينها الإسرائيلية إيمي بالمور في مجلس رقابة المحتوى قبل ثلاث سنوات
ورأى التحليل أنّ فايسبوك والشركة الأم «ميتا» انتهكا حقوق المستخدمين الفلسطينيين في ممارسة حريات التعبير والتجمع والمشاركة السياسية في الحرب على قطاع غزة. وأكد التقرير تنفيذ «ميتا» سياسيات تمييزية وغير متكافئة في ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
ومن الانتهاكات التي وردت في التقرير، قيام منصة إنستغرام التي تملكها ميتا بحظر الهاشتاغ #Aqsa، في بداية اندلاع حرب غزة في أيار (مايو) الماضي. واعتذرت «ميتا» في وقت لاحق، موضحة أن خوارزمياتها استبدلت المسجد الأقصى بجماعة «كتائب شهداء الأقصى» التابعة لحركة «فتح». إضافة إلى ممارسة أسلوب «حظر الظلّ» والرقابة الصريحة، تعرضت «ميتا» لانتقادات في المدة الحالية بعدما وثّق عدد من المستخدمين لمنصات التواصل خللاً في ترجمة كلمة «فلسطيني» متبوعةً بالعبارة العربية «الحمد لله» إلى «الإرهابيين الفلسطينيين» في ملفات تعريف متعدّدة. وذكر موظف سابق في فايسبوك، لديه إمكانية الوصول إلى المناقشات بين موظفي «ميتا» الحاليين، إنّ المشكلة «دفعت الكثير من الناس إلى حافة الهاوية «داخلياً وخارجياً».
حظر الظلّ
بين إنكار المنصات وجود ممارسات مماثلة وبين تأكيد الخبراء والمستخدمين حقيقة وجودها، تقول قالت نورا بينافيديز، كبيرة المستشارين في «فري برس، مجموعة الحقوق المدنية الرقمية لمراقبة وسائل الإعلام»، إنّ المخاوف بشأن الرقابة والحظر الظلي دائمة على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن المخاطر تكون أعلى بكثير في أوقات الحرب، ما يجعل التداعيات الواقعية لسياسات الشركات المبهمة هذه أكثر خطورة.
حظر الظل أو المعروف بـ Shadowban يحدث عندما تُكتم مشاركات المستخدم أو حظره على منصة اجتماعية (أو منتدى) من دون تلقّي أي إشعار رسمي بذلك. بمعنى أدق، هو منع أو عرقلة وصول محتوى مستخدم ما إلى المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث لن يكون الحظر واضحاً بسهولة للمستخدم. على سبيل المثال: التعليقات المحظورة الخاضعة لقواعد حظر الظل التي تُنشر على مدونة أو موقع تواصل اجتماعي، لن تكون مرئية للأشخاص الآخرين الذين يصلون إلى هذا الموقع، أي إنها ستبدو كأنها غير موجودة. بعضهم يعتبر هذه الممارسات تكميماً لطيفاً للأفواه عبر إخفاء منشوراتك بشكل قسري ولكن من دون عنف أو قسوة. ستلاحظ أن منشوراتك وتعليقاتك وأنشطتك قد اختفت أو حُجبت بشكل مفاجئ، وربما لا تظهر في عمليات البحث. بل من الممكن جداً أن تلاحظ انخفاضاً غريباً في التفاعل على صفحتك يكون سببه أنه لا يمكن لأي شخص – بمن في ذلك متابعوك- رؤية المحتوى الخاص بك في صفحة الفيدز (Feeds). أليس هذا شبيهاً بعمل إخفاء قسري «لطيف» لحسابك من دون الاضطرار إلى حظرك؟!
من هنا يمكن أن نقول إنّ نظرية دوامة الصمت لعالمة السياسة الألمانية إليزابيث نويل نيومان، عادت لتولد من جديد وتكون حقيقة موجودة، لكنّ هذا يحصل في ظل تقنية جديدة بعيدة عن أشكال الممارسات التقليدية. تحدّث باحثون ومهلّلون كثر عن تعديل كبير لتلك النظرية، وخصوصاً بعد ظهور المدونات والتطوّر والانتشار الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي. اعتقدوا أنّ فرض نظرية دوامة الصمت أصبح أمراً مستحيلاً، وأصبحت مسألة الحجب والحظر من الماضي والتاريخ. لكن التجربة، وخصوصاً في الصراعات، أثبتت أن الحظر والحجب وتكميم الأفواه ما زالت مستمرّة لكن بأدوات ووسائل جديدة، ربما تكون أكثر لطفاً وتهذيباً ولكنها أشد قسوةً. فهي لم تعد تشمل صحافيين ووسائل إعلام متواضعة، بل أصبحت أشمل وأوسع تطال مواطنين ومجتمعات كاملة تُحظَّر وتُحجب ويُكتم صوتها.
تبقى أعين العوام من الناس الذين يتابعون أحداث الأراضي المحتلة على وسائل التواصل في حالة تأهب وترقب واستعداد مصوبة لمتابعة آراء الإعلاميين والمحللين المنشورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي يستخدمونها للتعبير عن آرائهم في القضايا المهمة ذات الطبيعة الخلافية. تحمل هذه الآراء قيمة مرجعية بحجم تأثيرها في الرأي العام. لعل قوة التأثير التي يتمتع بها بعض المؤثرين وقادة الرأي العام وقدرتها على خلق تشويش بين الجماهير حول القضايا هي أهم الأسباب التي تدعو تلك المنصات إلى ممارسة سياستها في الحظر والحجب غير آبهة بكل ما تدّعيه من قيم أخلاقية ومعايير مهنية وضعتها وفرضتها كقيم مطلقة ناظمة في هذا المجتمع الافتراضي تخترقها عندما تتطلّب مصالحها ذلك.
المصدر: جريدة الأخبار