الجمهورية- جوني منير
من المنطقي الربط بين رسائل التصعيد المتبادلة بين واشنطن وطهران في الشرق الاوسط، ورفع منسوب التسخين في لبنان حول أزماته الداخلية وفي طليعتها ملف الاستحقاق الرئاسي. فهي لعبة مترابطة ولو تحت عناوين مختلفة. ولكي نكون أكثر دقّة فإنّ النزاع الحاصل، والذي أشعله التعاون العسكري الايراني ـ الروسي، تجاوز ساحات الشرق الاوسط ليصل إلى الساحل الافريقي الممتد على البحر الابيض المتوسط. وجاءت زيارة وزير الدفاع الاميركي لويد اوستن للمنطقة لتحمل رسالة واضحة بأنّ الخيار العسكري وضِعَ على الطاولة ولو انّ الأولوية تبقى في المرحلة الحالية للديبلوماسية.
واللافت انّ زيارة اوستن إلى المنطقة كانت قد سبقتها ثلاث زيارات جاءت في السياق نفسه، الأولى لمستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ومدير المخابرات المركزية وليام بيرنز، ومن ثم رئيس الاركان مارك ميلي. وبالتالي، فإنّ هذه الزيارات المتلاحقة للمسؤولين العسكريين والأمنيين الكبار لا تعني توجيه رسائل شكلية، بل اكثر من ذلك بكل تأكيد. والتسريبات الاميركية التي واكبت زيارة وزير الدفاع، ركّزت على استعادة الشرق الاوسط إلى اهتمام واشنطن بسبب الدور المتنامي للصين، والشراكة العسكرية الحاصلة بين ايران وروسيا، والتي تبدو إدارة بايدن أنّها مصممّة على إبراز العواقب السلبية لهذا التعاون العسكري المتنامي، والذي يؤثر على مسار الحرب الدائرة في اوكرانيا، وعلى المعادلات الميدانية خصوصاً في سوريا ولبنان.
لذلك اختار ميلي إدراج الاردن ومصر في جولته للقول، إنّ القوة العسكرية الأكثر قدرة في العالم تحمل مشروع تعاون عسكري وأمني متعدد الأطراف في الشرق الاوسط. فالاردن على تماس مع ايران من خلال سوريا والعراق، وكذلك من خلال الضفة الغربية. ويرتكز المشروع الذي يحمله وزير الدفاع الاميركي على تنسيق في العمق مع الجيوش العربية الحليفة لواشنطن، تشمل الدفاع الجوي والصاروخي والأمن البحري والتنسيق الاستخباراتي.
وفي العراق، لم تكن الملفات مختلفة. ذلك انّ اوستن الذي حرص على إبداء دعم بلاده لرئيس الوزراء العراقي محمد السوداني في مواجهة النفوذ الايراني، طرح ملف المعابر الحدودية غير الرسمية بين العراق وسوريا وايران. وقبل وصول أوستن إلى بغداد، كان رئيس الاركان الاميركي يزور شمال شرق سوريا، حيث الطريق البري الذي يربط ايران بالساحل اللبناني. ورأت واشنطن انّ ايران استغلت الزلزال الذي حصل لتوسيع نفوذها اكثر في شمال سوريا وترسيخه، خصوصاً في مدينة حلب. وهي اتهمت الفرق المكلّفة الإغاثة والبحث عن الناجين، والتي ارسلها «الحشد الشعبي» العراقي، بأنّها لم تغادر حتى الآن على الرغم من انتهاء عمليات الإغاثة والإنقاذ.
وهذا النزاع المتصاعد بين واشنطن والتحالف الايراني ـ الروسي ليس محصوراً فقط بالشرق الاوسط والساحل الشرقي للبحر المتوسط، بل ايضاً بالساحل الإفريقي، وهو ما كشفته جولة أوستن، والتي شملت المغرب. ذلك أنّ الكلام حول نية روسيا إنشاء قاعدة عسكرية في الجزائر التي تحتفظ بعلاقات ممتازة مع ايران، يُقلق واشنطن كثيراً. والتسريبات الاميركية تتحدث عن تعاون ايراني مع جبهة البوليساريو والتي سلّمتها مسيّرات، وهي ألمحت إلى قيام «حزب الله» بتدريب كوادر الجبهة على استخدام هذه المسيّرات. وتاريخياً تُعتبر الجزائر حليفاً قوياً لروسيا، وهي في الوقت نفسه شارٍ كبير للسلاح الروسي، مع الإشارة إلى انّه كانت حصلت سابقاً مناورات بحرية جزائرية ـ روسية، في وقت بقيت الموانئ الجزائرية مفتوحة امام قطع الاسطول الروسي.
وفي الخلاصة، فإنّ وزير الدفاع الاميركي يعتمد على تثبيت دعائم لاستراتيجية عسكرية ترتكز على جيوش المغرب ومصر والاردن واسرائيل، والتنسيق معها جواً وبحراً، سعياً لإقفال المنطقة امام التحالف الروسي ـ الايراني.
إضافة إلى ذلك، فإنّ تركيا اكبر عضو في حلف «الناتو» بعد الاميركيين، تستضيف قاعدة «انجرليك» الاميركية الضخمة. وكان لافتاً إيداع السعودية مبلغ 5 مليارات دولار في المصرف المركزي التركي، وهو ما سيساهم في التخفيف من هذه الأزمة الاقتصادية، خصوصاً بعد الزلزال، وبالتالي مساعدة إردوغان في انتخاباته الرئاسية. ومن المنطقي الاعتقاد أنّ المساعدة المالية السعودية لها أثمانها في المقابل، وانّ ما يهمّ السعودية هو تحجيم النفوذ الايراني في المنطقة. وليس بالضرورة ان تكون هذه الخريطة الجديدة خريطة حرب، لكنها بالتأكيد خريطة جدّية، يجري وضعها على الطاولة، في انتظار نتائج المسار الديبلوماسي.
وفي الواقع، فإنّ الظروف الاميركية الداخلية لإدارة بايدن تدفع به إلى إبراز عضلاته، ذلك انّ خصومه السياسيين، وخصوصاً في الحزب الجمهوري، ينعتون سلوكه بالضعيف، وهو ما أثّر في نظرهم على مكانة بلادهم في العالم، ومنح الجرأة للدول المنافسة لها، مثل روسيا والصين، وهو ما استفادت منه ايران.
ومنذ ايام نشر «معهد واشنطن» رأياً للخبير في شؤون المنطقة دينيس روس، طالب فيه الإدارة الاميركية بإبراز عضلاتها العسكرية. ووضع عنواناً لمقالته يقول: «على ايران ان تصدّق التهديد الاميركي».
وعدا عن انّ روس ينتمي إلى الحزب الديموقراطي، وهو لعب ادواراً كثيرة في الشرق الاوسط، فهو ايضاً شغل موقع المساعد الخاص للرئيس الاميركي الأسبق باراك اوباما، الذي كانت ادارته قد وقّعت الاتفاق النووي مع ايران، ما يعني انّه من الحمائم وليس من الصقور، وهو ما يعطي الانطباع عن جنوح المناخ الاميركي في اتجاه التشّدد لا العكس، على ابواب انتخابات رئاسية صعبة جداً.
وهذه الخطوات التصعيدية المتبادلة بين واشنطن والتحالف الروسي ـ الايراني، كان لا بدّ لها من ان تظهر في لبنان ايضاً ولو بثوب واسلوب مختلفين. ومن هذه الزاوية قرأ المراقبون إعلان «الثنائي الشيعي» دعم ترشيح رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، مرفقاً بخطاب سياسي حمل كثيراً من الرسائل.
فالتعاون العسكري الايراني ـ الروسي يعطي موسكو اوراقاً عسكرية في حربها الدائرة في اوكرانيا، ولكنه في الوقت نفسه سيمنح ايران دفعاً عسكرياً واقتصادياً في سوريا ولبنان. والمقصود هنا حماية الطريق البرية التي تربط ايران بلبنان، والدعوة إلى الحوار ضمن هذه الشروط سيعني تثبيتها، فيما الاستراتيجية العسكرية الاميركية الجاري وضعها، تتضمن إقفال الساحل الشرقي للبحر المتوسط امام ايران بحراً وجواً، وهو ما يشمل لبنان بطبيعة الحال.
ومن هنا ردّ السعودية السريع على طرح الثنائي الشيعي من خلال سفيرها في لبنان وليد البخاري. ولن يقتصر الردّ هنا فقط، ففي المعلومات، أنّ حركة ناشطة تجري في الكواليس بين الدول الخمس التي كانت اجتمعت في باريس للبحث في الأزمة اللبنانية وهي: فرنسا، الولايات المتحدة الاميركية، السعودية، قطر ومصر. ويجري الاتفاق من اجل عقد اجتماع ثانٍ لها خلال الايام المقبلة وقبل بدء شهر رمضان، للبحث في استكمال اجتماع باريس واتخاذ خطوات اكثر عملية. والأهم انّ ثمة توجهاً اولياً إلى أن ينعقد الاجتماع الخماسي في السعودية، وهو في حدّ ذاته رسالة واضحة وتبنٍ للمواقف السعودية إزاء الأزمة في لبنان. ومن المنطقي الاستنتاج، أنّ البيان الختامي والذي سيتمّ الاتفاق عليه مسبقاً، سيكون سقفه في مستوى التطورات التي حصلت على الساحة اللبنانية. وواشنطن تدرك انّ سلاح الوقت يلعب ضد مصلحة ايران هذه المرة. فالتدهور الاقتصادي والأزمة المعيشية يشكّلان عامل ضغط، سواء في لبنان او في سوريا، والحل موجود لدى السعودية ودول الخليج، وهي تطلب مقابلاً سياسياً عنوانه الابتعاد عن ايران.
كذلك، فإنّ ايران فقدت النافذة العراقية التي كانت تضخ جزءاً من العملة الصعبة إلى الاقتصاد الايراني المحاصر. ولكن، من السذاجة الاعتقاد أنّ ايران سترمي اوراقها بهذه البساطة. وكذلك الامر بالنسبة إلى «حزب الله» الذي يستعد لمعركة قد تطول إذا لم تحدث مفاجآت غير محسوبة، او انهيارات اجتماعية لا يمكن ضبطها. لذلك مثلاً، بدأ البحث جدّياً ومنذ الآن في طريقة التعامل مع انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان، وحصل نقاش مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي حيال إمكانية تعيين حاكم جديد توافق عليه واشنطن، بهدف عدم حصول فراغ في حاكمية مصرف لبنان، ما سيزيد من هول الانهيار المالي. ذلك انّ «الثنائي الشيعي» اتخذ قراره بعدم تولّي النائب الاول للحاكم مكان رياض سلامة، لأنّه شيعي، ما يضع الطائفة الشيعية امام مسؤولية تحمّل تبعات الانفجار المعيشي، بوجود ثنائية شيعية واحدة في وزارة المال وأخرى في المصرف المركزي.
وبالتالي، فإنّ الاستنتاج الوحيد الذي يمكن الخروج به راهناً، هو أنّ شدّ الحبال لبنانياً في موازاة الحماوة الاقليمية، يزيد من لهيب معاناة اللبنانيين، أقلّه في المرحلة القريبة المنظورة.