كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
أحيت الانتقادات التي وجّهها المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي الى رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو الحديث عن العلاقات المتردية بين واشنطن وتل أبيب. وإن احتسبها البعض عملية «توزيع أدوار»، فإنّ التقارير الواردة من واشنطن وتل ابيب أعطت هذه المواجهة أبعاداً اخرى لا تخلو من الجدية. وقد ربطتها بالخلاف الكبير بين «يهود الولايات المتحدة» و»يهود اسرائيل» في النظرة الى «اليوم التالي» للحرب. الامر الذي يستدعي التوقّف عنده عشية الانتخابات الاميركية. وعليه، ما هي المؤشرات التي تقود إليها؟
ليست المرة الاولى التي يتبادل فيها البيت الابيض، وخصوصاً الرئيس جو بايدن ورئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو ومعه أكثر من وزير اسرائيلي، الاتهامات التي بلغت مرحلة مستغربة لما حملته من إشارات قاسية عَبّر عنها الطرفان بعبارات «مهينة» خارجة عن المألوف في التعاطي بين القادة ورؤساء الدول، فكيف إن كانت المبارزة قائمة بين واشنطن وربيبتها تل أبيب كما هو متعارف عليه استناداً الى ما بُني من علاقات تاريخية ومميزة بين البلدين منذ نشأة الدولة العبرية قبل سبعة عقود ونصف، على رغم من تباين الآراء بين الجانبين في بعض المحطات التي تم تجاوزها بسرعة قصوى.
وبناء على ما تقدم، تكشف تقارير ديبلوماسية وردت من واشنطن وتقاطعت مع أخرى من دول مختلفة من بينها تل ابيب، انّ ما عَبّر عنه بايدن، وما نطقَ به أكثر من مسؤول اميركي من انتقادات قاسية ومهينة في حق نتنياهو، قد تزامَنَ مع ما تناقلته وسائل الإعلام الدولية من معلومات عن المجازر التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي في قطاع غزة وما حَصدته من ضحايا وشهداء من بينهم نساء وأطفال بعشرات الآلاف، وما ألحقته من تدمير بالبنى التحتية وخصوصا في المنشآت الطبية والتربوية ومراكز الإيواء الاممية. وقد عبّروا فيها عن قلقهم من حجم الضحايا إلى أن فاجأتهم الدعوى امام محكمة العدل الدولية، وصولاً الى صدور قرارها في نهاية كانون الثاني الماضي باتخاذ «إجراءات مؤقتة» في حق اسرائيل، بعدما اتهمتها خلال الجلسة التي عقدتها للنطق بالحكم الأوّلي في القضية التي رفعتها أمامها دولة جنوب إفريقيا بارتكابها «جرم الإبادة الجماعية»، وهو ما أصاب واشنطن منها بترددات نتيجة دعمها الأعمى لها. كما اضطرت واشنطن الى مراجعة بعض الاتفاقيات التي عقدت بينها وبين تل ابيب، والتي تتحكّم بأصول استخدام الاسلحة الاميركية في المدن الحضرية وقرى الضفة الغربية، فأصدرت عقوبات في حق بعض الألوية والمنظمات اليهودية في موازاة ما أصابها من قلق بتوسّع العمليات العسكرية الى ساحات المنطقة من اليمن الى العراق وسوريا.
وبمعزل عن هذه المواجهات، التي بقي معظم وقائعها ملكاً للطرفين، فقد تلاحقت المواقف السلبية المتبادلة في الأيام الأخيرة بين واشنطن وتل ابيب، بعد المبادرة التي أطلقها بايدن لوقف النار في غزة، وما اقترحه من إجراءات ميدانية نسب بعضها الى الجانب الاسرائيلي قبل ان يتهمه نتنياهو بـ«تزويرها»، وهو ما زاد من احتدام المواقف بينهما وصولاً الى مرحلة يجب التوقف عندها بحثاً عن الفصل الواجب قيامه بين كونها خلافا كبيرا مباشرا أم انها عملية تبادل أدوار عشيّة دخول الولايات المتحدة الاميركية مدار الانتخابات الرئاسية. وكلّ ذلك كان يجري وسط معلومات تحدثت عن أنّ نتنياهو ينوي إطالة الحرب حتى موعدها في تشرين الثاني المقبل، واستدراج واشنطن اليها تمهيداً لإلحاق الأذى برئيسها في الانتخابات، في اعتباره من الساعين بما أُوتي من قوة لتسهيل عودة الرئيس السابق دونالد ترامب الى البيت الأبيض مطلع السنة المقبلة.
وإن سعى البعض الى مزيد من التفاصيل، عليه ان يطلع على بعض التقارير الديبلوماسية التي تحدثت عن خلافات كبيرة بين اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة والحكومة الاسرائيلية الحالية ورئيسها، خصوصاً في نظرتهما الى الحل في المنطقة، وسُبل حماية «دولة اسرائيل» من التطور الديموغرافي الفلسطيني السلبي الذي يقضّ مضاجعها، فتخشاه الى درجة توقعت فيها دراسات يهودية انّ عدد الفلسطينيين في مناطق الـ 48 والضفة قد يتجاوز عدد اليهود قبل العام 2050، وهو ما يهدّد الكيان وتركيبة الدولة اليهودية.
وقالت هذه التقارير انّ يهود الولايات المتحدة الاميركية وما تعبّر عنه معظم جمعياتهم ومؤسساتهم قد كشفوا عن خلافهم الكبير مع نتنياهو في أكثر من مجال، لا سيما في مَدى استعجال التطبيع مع المملكة العربية السعودية وتلبية مطالبها بـ«حل الدولتين» والنظر بإيجابية الى مطالب الفلسطينيين بحق العودة وتقرير المصير، وإنهاء الاحتلال لمناطقهم بما فيها قطاع غزة ووَقف الاستيطان في الضفة الغربية وإزالة بعض المستوطنات غير الطبيعية فيها. الى درجة تسمح بإقامة «الدولة الطبيعية» ما بين الضفة والقطاع والبدء بإعمار ما تهدّم. وهم يرون انّ ضمان «ديمومة» الدولة اليهودية يفترض إقامة تلك «الدولة الفلسطينية» المستقلة. فالفكر الصهيوني الأصلي يقول بضرورة الفصل بين اليهود والفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين، ليحتفظ اليهود بالاكثرية من ضمن أراضي دولة «اسرائيل الجغرافية» في ظل استحالة اقامة الدولة التي يحلمون بها من البحر الى النهر.
وفي هذا الاطار اشارت التقارير عينها، وخصوصاً تلك التي تناولت هذا الجانب من الخلاف بين يهود الدولتين، إلى انّ كلّاً من نتنياهو وترامب يرفضان هذه المعادلة المقترحة، ويصرّان على تهجير أكثرية الفلسطينيين، وإن تَمكّنا، من أراضي الـ 48 قبل الضفة والقطاع. وهما كانا وما يزالان يقرّان بضرورة إنشاء الدولة الفلسطينية «البديلة» في سيناء وربما على ارض اردنية او في أي منطقة يمكن تهجير الفلسطينيين إليها.
على هذه الخلفيات، يبدو انّ بايدن مرتاح الى موقف «اليهود الاميركيين» المؤيدين له، ولا يخشى من أي ضغوط يمكن ان يقوم بها نتنياهو في معركته الانتخابية. وإنّ إدارته على يقين بأنّ هؤلاء اليساريين والمقرّبين من اليسار الاسرائيلي يؤيّدونه انطلاقاً مِن تَوافقهم على النظرة الى «اليوم التالي» في غزة و«مستقبل الدولة اليهودية». وهم عبّروا في أكثر من محطة انتخابية عن قربهم وتحالفهم العميق مع الحزب الديموقراطي وسيخوضون مواجهة قوية مع الحزب الجمهوري وانصار ترامب، وإنّ أي نقاش يُطاول هذا المنطق لا يحتمل كثيراً من الجدل في أوساطهم، وهم سيصوّتون بنسبة تزيد على 75% منهم الى جانب بايدن تحت أي ظرف كان.
ويضيف العارفون بكثير من التفاصيل ان هؤلاء اليهود الذين صوتوا الى جانب بايدن في المواجهة الاخيرة مع ترامب عام 2020، أنكروا على ترامب ما قدّمه لـ«الدولة اليهودية»، من نقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس، ومساندته وتَبنّيه قرار ضّم «الجولان المحتل» إلى اراضي الدولة اليهودية، وقدّم لهم ما سُمّي «صفقة القرن» التي تنهي أي حلم بالدولة الفلسطينية.
واستناداً الى ما تقدم، توحي هذه التقارير في حصيلتها النهائية انه، والى جانب الخلاف الذي لم يعد في الإمكان إخفاؤه بين بايدن ونتنياهو ومعهما من يدور في فلكهما، فإنّ له ما يوازيه من خلاف عميق اقترب من ان يكون استراتيجياً بين من يمكن تسميتهم «يهود الولايات المتحدة» و«يهود السلطة» في تل أبيب، وهو ما قد يتقدم في أهميته على بقية وجوه الخلاف قبَيل الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستُثبت زيف هذه النظرية في مقابل صوابيتها… وما علينا سوى الانتظار.