لم تخل الجغرافيا الروسية من غزوات أجنبية، كادت أن تصل في بعض الأحيان إلى عاصمة روسيا القيصرية أو البلشفية أو البوتينية، إذ أن الأراضي الروسية كانت عرضة للهجوم البري من جيرانها، منذ زمن السلطنة العثمانية الى الحرب العالمية الثانية، والتي شكلت العوامل الطبيعية والجغرافية المساهم الأبرز في انهيار الجيوش الغازية على أعتاب بطرسبرغ.
العمليات الروسية الموضوعية على أوكرانيا ما هي إلا لنزع نزاع محتمل قد يطال المصالح الروسية على حدودها، ومن على خاصرتها الاوكرانية، خاصة مع كون أوكرانيا منطلقًا لحلف الناتو لاستهداف موسكو، وأمنها القومي ومصالحها الاقتصادية، وهي التي كانت دومًا في تحت الرعاية الروسية، إلى أن حصلت الثورة الملونة عام 2014، وأدت الى انتزاع إقليم القرم منها وضمها للسيادة الروسية. توازيًا مع عقوبات غربية وضعت موسكو على مسار تجنبها العام 2022، عبر إعادة هيكلة الإقتصاد كي لا يتأثر بأي عقوبات جديدة.
وكانت هذه العمليات الموضوعية التي بدأت في 24 شباط الماضي، لا تهدف الى الإطاحة بحكومة زيلينسكي في كييف، بل بترويضها للحفاظ على العلاقة القديمة مع موسكو. إذ إن أبرز الاكتشافات الروسية في العملية القائمة هي مخططات لإعادة إحياء المشروع النووي الأوكراني العسكري بدعم غربي، مما يشكل تهديدا وجوديًا لموسكو. إذ أن حلف شمال الأطلسي وبعد توريطه حكومة كييف بالحرب، تخلى عنها دون أن يرف له جفن واحد، ما عدا حملات الاستنكار المجنونة التي طالت الاتحاد الروسي. مما شكل ذريعة للانقضاض على الدب الروسي، وتكبيله بعقوبات اقتصادية والتي بدت وكأنها للتشفي من موسكو حتى طالت حتى الهررة الروسية، في محاولة متأخرة لقلب النظام، كما حصل مع الإتحاد السوفيتي.
الموقف الغريب كان من الصين وايران، حلفتا موسكو، اللتان امتنعتا عن التصويت على قرار مجلس الأمن الذي سقط بالضربة القاضية الروسية، كما تم الامتناع عن التصويت في الجلسة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي بدت وكأنها طعنة في الظهر لموسكو. إلا أن موسكو علمت دوافع البلدين للامتناع، فالصين التي دعت إلى وقف الحرب واحترام سيادة الدول والحفاظ على وحدة أراضيها، تغمز من بوابة ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي الصينية، والتي تضمن هونغ كونغ وتايوان، وتحذر الغرب من الإقتراب لسيادتها عليهما. أما إيران فلا يمكنها تأييد حرب شنتها موسكو على كييف للحفاظ على مصالحها الإستراتيجية، وتقف في موقف معارض لشن الرياض عمليتها العسكرية على اليمن لنفس السبب، توازيًا مع سير المفاوضات النووية على قدم وساق في جنيف، مما يشكل تأخيرًا للتوقيع عليه بعد توتير علاقاتها مع الغرب.
والغريب في الموضوع أيضا، هو اعتماد بعض دول الاتحاد الأوروبي في علاقاتها مع موسكو قاعدة “قلوبنا معك وسيوفنا عليك”، حيث ترسل رسائل مبطنة إلى الخارجية الروسية تدعوها الى تقدير موقفها المحرج في الاتحاد الأوروبي، مع تخوف أوروبي من قطع إمدادات الغاز في فصل الشتاء، والتي تؤدي إلى تجمد القارة الأوروبية، والتي تعتمد بنسبة 40% من ايراداتها من الطاقة على روسيا، وأن دولة مثل المجر تعتمد على ما نسبته 80% على الغاز الروسي. فالسلاح الغاز قد يكون آخر أسلحة بوتين في حربه مع حكومة كييف، والتي لن تطول كثيرًا نظرًا لدقة الضربات وعدم استهداف المدنيين الذين إذا سقطوا فهم خسارة روسية صافية، نظرا لأواصر المصاهرة بين الشعبين الروسي والأوكراني ، وتجنب دخول أي من دول الإقليمية في الحرب بعد تهديدات بوتين باعتبارها حربًا على روسيا.
في المحصلة، يبدو أن موسكو تتقدم دون هوادة في كسر الاحتكار الأمريكي للمنطقة، خاصة مع تعهدات أمريكية بعدم إرسال جنود إلى مناطق الصراعات، خاصة مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس الأمريكي والتي يتوقع خسارة الحزب الديمقراطي للأغلبية عقب الخسارات السياسية المتتالية لبايدن.