كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
إذا كان صحيحاً أنّ السيد حسن نصرالله أعلن موافقته على وقف النار، عشية اغتياله، فسيكون مُهِمّاً حلُّ اللغز: إذاً لماذا اتخذت إسرائيل قرارها العاجل بتنفيذ الاغتيال؟
في الأسابيع الأخيرة، بدّلت حكومة الحرب الإسرائيلية خططها العملانية الخاصة بالحرب المندلعة مع لبنان منذ عام. ففي الأشهر الأولى، كان هاجسها الاستفراد بـ»حماس» وتدمير غزة والسيطرة عليها. وكان يكفيها في لبنان أن يتركها «حزب الله» تنفّذ مهمّتها في غزة بلا إزعاج، أو أن يوقف إطلاق النار ويبتعد كيلومترات عدة عن الخط الأزرق لضمان أمن المنطقة الشمالية.
في ذلك الحين، كان اليمين الإسرائيلي المتطرّف يضغط لتوجيه ضربة قاسية إلى «الحزب» تمنعه من القيام في أي يوم، في المستقبل، بعملية كتلك التي نفّذتها «حماس» في 7 تشرين الأول 2023. لكن ممانعة واشنطن لهذه المغامرة، وانشغال الجيش بغزة، دفعا الحكومة إلى خطة تقضي بوضع جنوب الليطاني تحت ضغط ناري كثيف وطويل، ما يؤدي إلى ولادة المنطقة العازلة تلقائياً، فيصبح دور الوسطاء، وعلى رأسهم عاموس هوكشتاين، تثبيتها على الورق.
قبل أسابيع، تبدّل تكتيك الحرب في لبنان. وفي رأي ديبلوماسي وثيق الاطلاع، أنّ نتنياهو اكتشف مدى مراعاة واشنطن لطموحاته أياً كانت. وقد ظهر له ذلك في غزة، عندما أمعن في تجاهل نصائحها واقتحم القطاع برياً، لكنها بقيت تقدّم له الدعم الكامل. وفي تقديره أنّها اليوم ستكرّر تقديم الدعم له في لبنان، ولو تجاوز كل اعتراضاتها. بل إنه يخطّط لاستدراج واشنطن إلى دعمه في الضربة التي يخطّط لتوجيهها إلى إيران.
في لبنان، يريد نتنياهو الاستفادة من فرصة أميركية سانحة، تقدّر زمنياً بنحو 4 أشهر، أي حتى انتهاء ولاية الرئيس جو بايدن، لتنفيذ طموحاته الحيوية، أي بتوجيه ضربة قوية إلى «حزب الله»، على غرار الضربة التي وجّهها إلى «حماس». وفي اعتقاد نتنياهو وشركائه في السلطة أن هذه الفرصة قد لا تتكرّر في أي يوم، ولذلك لا يجوز تفويتها.
وحتى الآن، نجح نتنياهو في جرّ الإدارة الأميركية إلى متراسه، عسكرياً وسياسياً. فوافقت على ضرب «حزب الله» في لبنان، والأرجح أنّها تقدّم إليه الدعم بالسلاح والذخيرة، كما بالرصد والمعلومات.
لذلك، تطمح إسرائيل اليوم إلى إضعاف «الحزب» إلى الحدّ الأقصى، باستهدافه على 3 مستويات:
1- ضرب هيكليته القيادية، من أعلى الهرم إلى الكوادر الميدانيين، وتعطيل منظومة الاتصال التي تربط بين الأجهزة.
2- ضرب ترسانته في مختلف المناطق، لا في الجنوب فحسب، وقطع خطوط إمدادها من إيران وسوريا، وتدمير الأنفاق التي يتحرك فيها المقاتلون، سواء عبر الحدود السورية أو في موازاة الخط الأزرق.
3- المضي في عملية التدمير الممنهجة للمنطقة الحدودية، بالغارات الجوية، لتتمكن القوات البرية لاحقاً من التوغل، بأقل مقدار من الخسائر، بعدما أظهرت تجربة التقدّم البري في الأيام الأولى أنّ الدخول سيكون مكلفاً خلافاً لما توقعه البعض. وهذا الأمر يثير مخاوف الجنوبيين من لجوء إسرائيل إلى عمليات تدمير جنونية شاملة للقرى، خصوصاً في جنوب الليطاني، لتتحول أرضاً محروقة يتاح فيها دخول الجيش الإسرائيلي بمستوى أكبر من الأمان، كما حصل في بعض مناطق غزة.
إذاً، التحدّي الذي يواجهه «الحزب» اليوم يتعلق بمصيره. فقادتُه وكوادره ينصرفون للاحتماء من عمليات الاغتيال التي تلاحقهم إلى أكثر الأماكن سرّية وخصوصية، فيما مقاتلوه يستشرسون لمواجهة التقدّم الإسرائيلي، وهم يعانون صعوبات اتصالية وتموينية. وأما ترسانته فتتعرّض للقضم السريع، ويصعب عليه تعويضها بسبب الحصار الناري وإقفال طرق الإمداد.
إنّه فعلاً تحدٍّ شرس، لم يكن أحد يتوقعه. و»الحزب» نفسه يعتبر هذا التحدّي مصيرياً. فبناءً عليه سيتقرّر ما إذا كان سيبقى تلك القوة المدججة بالسلاح الثقيل، المتفوقة عسكرياً وسياسياً، صاحبة القرار النافذ في بيروت، والقادرة على التأثير في الإقليم، أم سيتراجع ليصبح طرفاً سياسياً له تمثيله المحدّد لفئة معينة في لبنان، كما تراجع آخرون قبله وتنازلوا عن ترساناتهم ذات يوم، وتحولوا أحزاباً تتعاطى العمل السياسي؟
ما تؤشر إليه التطورات الصاخبة المستمرة منذ أسبوعين، توحي بأنّ إسرائيل مصرّة على تطبيق نموذج ضرب «حماس» على «حزب الله»، وتطبيق نموذج التدمير الشامل لبعض المناطق في غزة على المنطقة العازلة التي تعمل لها في جنوب لبنان، وتطبيق نموذج العزل وتقطيع الأوصال في لبنان كما في غزة. وفي الخلاصة، هي تلقنت الدرس في غزة وجاءت تستثمر نتائجه في لبنان.
في المقابل، «حزب الله» لا يريد التراجع تحت الضربات، وواضح أنّه سيمضي في معركة البقاء مهما بلغت التضحيات. وفي الأيام والأسابيع المقبلة ستظهر نتائج هذه الحرب الشرسة، وسيتقرّر مصير «الحزب» كقوة محلية وإقليمية «استثنائية»: يكون أو لا يكون.