كتبت جريدة “الأخبار”:
على عكس معظم القوى التي كانت منضوية في قوى «14 آذار»، يبدو تيّار «المستقبل» الأكثر تأنياً في التّعاطي مع الملف السوري. ورغم أن لائحة اتهامات «التيّار الأزرق» ضد النظام السوري السابق هي الأطول، وأهمها اتهامه باغتيال الرئيس رفيق الحريري، فإن التيار لا يستعجل إطلاق المواقف الحاسمة، رغم أنه يعتبر سقوط بشار الأسد بمثابة «انتصار إلهي أدّى إلى تحقيق العدالة المُنتظرة بحق النظام المجرم»، على حد تعبير قيادييه.
ويتبدى هذا التروي واضحاً مع تأخّر الرئيس سعد الحريري أسبوعاً كاملاً قبل أن يعلق على سقوط النّظام (تيّار المستقبل أصدر بياناً بعد ساعاتٍ من رحيل الأسد). وكذلك في ابتعاده في البيان عن مسار «زملائه السابقين» في محاولة لتقريش الإنجاز السوري داخلياً أو استعجال الانغماس في الأرض السوريّة وحجز رحلة سريعة إليها.
وعليه، تبدو الحماسة الزائدة مقيّدة بعقلانية سياسيّة. ليست قواعد تعليق العمل السياسي التي يلتزم بها الحريري وأركان تيّاره وحدها التي تُكبّل حماستهم، وإنّما يُدرك هؤلاء أنّ النّسخة الأخيرة للولادة السوريّة لم تأتِ أو أنها بعد في انتظار ما ستكون عليه صيغة الحكم في آذار المقبل، وما إذا كانت «هيئة تحرير الشام» ستكون على رأس القيادة.
ترقّب المخاض السوري
انتظار «الحريريين» جلاء المشهد في دمشق لا يُمكن فصله عن الموقف العربي، وتحديداً موقف السعودية والإمارات العربية المتحدة. إضافة إلى ترقّب للموقف الغربي من الحكم الجديد، حيث تطرح الأسئلة عن إمكانيّة شطب «هيئة تحرير الشام» من قائمة الإرهاب، وإسقاط «قانون قيصر» عن الدولة السورية. وهي الأسئلة التي لا يجد «الزرق» إجابات عنها، تدفع التيار إلى التّعاطي بحذر، منعاً لـ«حرق الأصابع» في التطوّرات السوريّة، طالما أنّ الـ«end product» في دمشق لم يصل السوق بعد.
ورغم أنّ الكثيرين يعتبرون أنّ «المستقبل» لن يكون بمقدوره «هضم» الإسلام السياسي على حدوده وإمكانيّة تمدّد هذه التجربة إلى الدّاخل اللبناني، فإنّ لـ«المستقبليين» رؤيتهم لتجربة قائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، وأنها ليست متطابقة مع تجربة الرئيس المصري السابق، محمّد مرسي. وأن هناك متغيّرات كبيرة حصلت بين التجربتين، ما يجعل الأمر صعباً بتصدّر «الإسلاميين» المشهد في سوريا. ويتوقف قياديون في «المستقبل» عند تصريحات «أبو محمّد الجولاني» وتطميناته للأقليّات وطريقة إدارة العمليّة الانتقاليّة، وخصوصاً أنّ السّاحة السوريّة تبدو منضبطة من دون أحداث كبيرة تُذكر.
كلّ ذلك يُطمئن «الحريريين» أن لا مزاحمة على الجمهور السني الدّاخلي المأخوذ بالشرع، إلا أنّهم يترقّبون عن كثب وبصمت مخاض بناء الدّولة السوريّة وصيغة الحكم والمرحلة الانتقاليّة، ليكون بإمكانهم رسم موقفٍ على قياسه، والانتقال بعدها إلى موقف للدولة اللبنانيّة مستمدّ من القرار الدّولي 1680 بهدف ترسيم الحدود اللبنانيّة – السوريّة رسمياً وحمايتها، وإقامة علاقات ديبلوماسيّة تأكيداً لسلامة لبنان. علماً أنه يوجد جانب آخر ، يتعلق بكون تركيا هي الدولة التي لها دور الوصاية على الوضع الجديد في سوريا، والكل يعرف أن الرئيس سعد الحريري، تربطه علاقات خاصة وقوية وشخصية مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، كما لعب الحريري دوراً في التقارب بين أنقرة وأبو ظبي، وكان له استثماراته في تركيا أيضاً.
الأمن في سلّم الأولويات
ومع هذا الصّخب الدمشقي، يبقي «المستقبل» دفّته هادئة، فالمحسوم بالنسبة إليه، هو عدم انتقال «عدوى» التطوّرات إلى الدّاخل اللبناني. وهي ربّما ما يدفع مسؤوليه إلى متابعة كلّ تفصيل في بعض مناطق التّماس الحسّاسة، لمعالجته قبل تفاقمه بالتّنسيق مع قيادة الجيش والأجهزة الأمنيّة.
من يعرف الحريري الذي ارتضى بأن يُضحي بمستقبله السياسي من أجل الحفاظ على السّلم الأهلي، كما يقول «المستقبليون»، يُدرك الأسباب التي تجعل الحريري مهجوساً دوماً بمنع الانجرار إلى الفتنة أو المسّ بالاستقرار. هو الذي يُعمّم دائماً على قيادييه ضرورة العودة إلى خطاب الرئيس رفيق الحريري الوطني والابتعاد عن التحريض. وهذا الأمر تظهّر بشكل واضح أثناء العدوان الاسرائيلي على لبنان، مع التأكيد على اندماج «المستقبليين» عن سابق تصوّر وتصميم، في عمليّات الإيواء وتقديم المساعدات للنازحين في جميع المناطق، وعلى رأسها صيدا وعكّار والبقاع الغربي وإقليم الخروب، حيث تبدّت اللحمة الوطنيّة التي أرادها الحريري.
لا يتهاون «المستقبليون» داخلياً مع أي أمر يتعلّق بالتوازنات السياسيّة وحمايتها ورئيسها يشدد على منع الفتنة
يوماً بعد آخر يتمسّك «المستقبليّون» بهذا الخطاب؛ وهم يراقبون «الشد» الشيعي – المسيحي مع خطابٍ وصل إلى أعنف مستوياته في الحرب، ولكن من دون أن ينزلقوا إليه. كلّ شيء في ميزان «الزرق» قابل للأخذ والردّ، إلا حينما يتعلّق الأمر بالتوازنات السياسيّة فيعقدون العزم لمقاومة هذا الاختلال حمايةً للتوازنات الدّاخلية. لذلك، كان التشبّث بالخطاب الوطني ومقتضياته في المدة الأخيرة. وهو ما ينعكس على الجمهور المستقبلي، الذي يبدو «هادئاً وواعياً» على حد تعبير بعض المسؤولين في المناطق، حتّى في الشّمال الذي يُعد المنطقة الأكثر تأثراً بالتطوّرات السوريّة. ولكن «المستقبليين» لم يلحظوا حتّى الساعة إشارات سلبيّة تدل على اقتراب شبح الفتنة.
«تقطيع» مرحلة المتغيّرات
ورغم التعقّل في الشّارع السني، إلا أنّ عيون «الحريريين» تترقّب كلّ ما يأتي من الدّاخل أو الخارج، لوضعه على «المشرحة السياسيّة»، إذ إنّ التخوّف من مشاريع فتنويّة قائم في أي لحظة، على اعتبار أنّ المرحلة دقيقة جداً، وهي مرحلة الخروج من حربٍ مع العدو الإسرائيلي والدّخول في محطّة تاريخيّة بسقوط نظام الأسد وقيام حكم جديد، وعلى وقعهما سيتم انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة لم يتحدّد ما إذا كانت ستُطبخ على البارد أو على الصفائح الساخنة والمتحرّكة، وتأجيج خارجي.
وعليه، فإنّ المقولة التي يردّدها كثيرون منهم: «إنّها مرحلة المتغيّرات الكثيرة والثوابت القليلة». وفي ظلّ هذه العواصف ينوي هؤلاء تقطيع المرحلة حتّى يتّضح المشهد العام، وإحدى ملامحه انتخاب الرئيس. علماً أنّ تعليق العمل السياسي يفرض عليهم اعتكافاً في المواقف بشأن الانتخابات الرئاسيّة ثم تشكيل الحكومة، خصوصاً أنّ الحريري لا يتكئ على كتلة نيابيّة حقيقيّة (باستثناء علاقته الشخصيّة ببعض النوّاب) تجعله قادراً على قلب الموازين والمُشاركة في تعميم كلمة السر الخارجيّة.
قضية الموقوفين الإسلاميين
وليس انتخاب الرئيس وحده ما يُمكن أن يولّد انقساماً داخلياً، وإنّما ما يُرسم بشكل عام، على اعتبار أن الخشية هي في «كب» بعض المصطادين في الماء العكر أي موضوع على الطاولة السنيّة ما سيقلب الأمور رأساً على عقب.
ولجميع هذه الأسباب يأتي وجود «المستقبليين» على الأرض في المناطق لضبط الشارع، كذلك مراقبتهم لحركة المساجد والجمهور وحتّى مواقع التّواصل الاجتماعي. وفي هذا الإطار أيضاً، كانت مشاركتهم ودعوتهم إلى الاحتفالات الشعبيّة «تحت نظرهم» احتفاءً بسقوط الأسد، ثم في اليوم التالي مُحاولة «لم» قضيّة الموقوفين الإسلاميين وتبنيها، بدلاً من رميها في أحضان بعض القوى السنيّة الأكثر تشدداً. ما يتوجّس منه «المستقبليون» هو «فورة» الانتقال من صيدنايا إلى رومية، وترك القضيّة تتفاعل في الشارع السني وصب الزيت على نارها تمهيداً لتحويلها مع غيرها من القضايا إلى فتائل تفجير حتميّة. هذا التخوّف يبدو أنّه يتسلّل إلى «القنطاري» الذي يضغط باتّجاه نزع فتيله باكراً.
استعجال كتلة «الاعتدال الوطني» تقديم اقتراح عفو عام بمباركة من الأمين العام لـ«التيار»، أحمد الحريري، ثم التشاور في هذا الاقتراح مع «هيئة علماء الملسمين» ولجنة أهالي الموقوفين في جميع لبنان (بعد بيان للهيئة واللجنة ينتقدون فيه تقديم الاقتراح من دون الاطلاع عليه)، لا يمكن فصله عن هذا السياق أيضاً.
في المحصّلة، يُحاول «المستقبليون» تلمّس خيوط النّار قبل اشتعالها، مع إدراكهم بأنّ رئيسهم ما زال بوصلة الجمهور السني، في ظلّ حميّة الشارع باتجاه دمشق. وباستثناء حماية التوازنات والحفاظ على الاستقرار، يراقب هؤلاء عن كثب المتغيّرات متمسكين بحبل تعليق العمل السياسي، بانتظار متغيّر جديد يُحيي حياة الرّجل السياسيّة.
الذكرى الـ20 لاغتيال الحريري: حشدٌ شعبي بمشاركة سعد
ينهمك مسؤولو تيّار «المستقبل» في بيروت والمناطق بالتحضير للذكرى السنويّة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط المقبل، بعدما بدأوا يعدّون العدّة منذ السنة الماضية لإحياء ذكرى استثنائيّة تختلف عن السنوات السابقة التي اكتفى فيها «الجمهور الأزرق» بالتجمّع عند ضريح الحريري أو في بيت الوسط. وعلى ما يبدو واضحاً أنّ حملة «تعو ننزل تيرجع» ستشتد وطأة هذه المرّة، ليكون الحشد أكبر ومُشابهاً للسنوات الأولى التي تلت اغتيال الحريري.
المكان لم يتحدّد بعد ولا برنامج الذكرى ولا حتّى الشعار، ولكن ما بات مؤكّداً هو مُشاركة الرئيس سعد الحريري كما اعتاد في كلّ سنة؛ إذ إنّها الذكرى العشرون لاغتيال والده، وهذه المرّة ستكون بطعم «رد الثأر» بعد سقوط النظام السوري. حيث سيكون للحدث وقعه على برنامج الاحتفال والكلمات أيضاً. مع رغبة المنظمين، بالعمل على فكرة تقول إن أحداثاً كثيرة ما كانت لتحصل لو كان رفيق الحريري حياً خلال العشرين سنة الماضية.
يُشار إلى أن المتغيّرات في المنطقة تفتح شهيّة «الجمهور الأزرق» على عودة زعيمه، بعد تغريبةٍ مستمرة منذ 3 سنوات، و يُمنّي الجمهور نفسه بأن يرفع رئيس «المستقبل» إجراءات الاعتكاف، ويعود إلى الحياة السياسيّة. لكن، لا يلمس المتابعون أي حدث يشير إلى تغييرات توحي بعودةٍ طوعيّة للرّجل. ولكن هي فقط إشارات عن الرغبة في تأمين حشدٍ شعبي من كلّ المناطق في 14 شباط، فيما من المنتظر أن تطول إقامته في بيروت أكثر من زيارة السنة الماضية، حتّى يكون بمقدوره تلبية المواعيد التي كان من المفترض تلبيتها في حينه.