لطالما عاش اللبنانيون معاناة كبيرة جرّاء التوترات السياسية ذات الخلفية الطائفية. في كل مرة يكون فيها لبنان ممسوكاً بتوافق خارجي بين اللاعبين الكبار، تختبئ هذه التوترات خلف صياغات ملتوية، قبل أن يتحفنا «أولياء الأمر» بالحديث عن التعايش والتنوع وغيرهما من التوصيفات. فيما يبقى الجذر الطائفي للسلوك العام، وليس للأزمة، هو الغالب على كل شيء.
سابقاً، عانى المسلمون من نظام طائفي مع غلبة مسيحية. ولئن نجحت قوى علمانية في كسر بعض الجدران، إلا أنها لم تفهم الآليات المعقّدة للعقل الجمعي للطوائف اللبنانية، حتى إذا ما قرّر طرف أساسي في الحرب إعلان الوجه الطائفي الصريح للمعركة، ضاع العلمانيون في صراعات الطوائف، وهو ما حصل بعد حرب السنتين عام 1977، فبات العلمانيون جزءاً من الحرب الطائفية، حتى ولو كالوا الاتهامات لخصومهم أو خلعوا الصفات الوطنية على حلفائهم. وأظهرت نهاية الحرب الأهلية أن المعركة هي حول المصالح الكبيرة للطوائف، فتم إقصاء العلمانيين، إلا من ارتضى منهم أن يكون جزءاً من المعادلة السياسية، وتلوينةً سخيفة لنظام طائفي مقيت.
في النسخة الثانية من النظام الطائفي مع غلبة إسلامية، عاش المسيحيون 15 سنة من الإقصاء، ومن تعرّض للاضطهاد منهم هم من يمثّلون فعلياً الغالبية الساحقة من الجمهور المسيحي، وهو ما رست عليه الأمور حتى يومنا هذا. أما المسيحيون الذين أرادوا إعادة صياغة موقعهم وفق اتفاق الطائف، فجلّهم خارج المشهد السياسي، علماً أن كثيرين منهم كرّروا فعلة بعض العلمانيين مع اتفاق الطائف، فارتضوا مواقع هامشية بعدما أسبغوا صفات على القادة الطائفيين الجدد، من الجانبين، تشبه ما كانت عليه حال اليسار اللبناني عندما وصف بعض الخصوم بالقوى الطائفية الانعزالية ملقياً عليها الحرم، فيما أضفى صفة الوطنية على حلفائه من القوى الطائفية!
اليوم، في ظل الانهيار المطبق على لبنان، سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً، نشهد مستويات جديدة من التوتر الطائفي الذي يرتفع سقفه يوماً بعد آخر. ويصبح المشهد سوريالياً عندما يحاول المرء رسم الصورة كالآتي:
– جمهور القوات اللبنانية وأنصار 14 آذار وغلاة القوميين اللبنانيين من المسيحيين يعبّرون، صراحة، عن رفضهم لحزب الله، فيما يتساهل بعضهم مع حركة أمل ويعطيها أسباباً مخفّفة لناحية أنها لا تمثّل مشروعاً متصلاً بالإقليم. لكن النتيجة أن هؤلاء، وهم أكثر من نصف المسيحيين، يكرهون أكثر من نصف الشيعة الذين يمثّلهم حزب الله. في المقابل، فإنّ التيار الوطني الحر وحلفاءه، وهم أقل بقليل من نصف المسيحيين، يرفضون ممثلي الشيعة في الدولة، ويصبّون جام غضبهم على حركة أمل، وطفت على السطح أخيراً انتقاداتهم لحزب الله ورفض ما يسمّونه محاولته فرض نمط حياة جديد على اللبنانيين. ويلفتون إلى أن غالبية مسيحية ساحقة ترفض، أو غير مستعدة لتحمّل عواقب العلاقة مع فريق لديه مشكلة مع الغرب.
النتيجة النهائية لكل ما سبق أن غالبية ساحقة من المسيحيين تكره غالبية ساحقة من الشيعة، فيما الأقلية الخارجة عن هذا التصنيف لا تشكل وزناً فارقاً في المعادلة اللبنانية، ومعظم هؤلاء ينتمون اليوم الى «المجتمع المدني» الذي يسعون إلى خلق كيانه المستقل حياتياً ومعيشياً وثقافياً وفكرياً.
– شيعياً، لا يطيق جمهور المقاومة ذكر كل من له صلة بالجبهة اللبنانية. ومع الفرز ومرور الزمن، صار هذا الجمهور على عداوة فعلية مع كل الفريق الكاره له مسيحياً. وفيما يعتبر التيار الوطني الحر لعنة بحدّ ذاتها بالنسبة إلى جمهور حركة أمل، بات أنصار للمقاومة يعبّرون، أخيراً، عن ضيق من العلاقة مع التيار. الحصيلة النهائية، هنا أيضاً، أن غالبية شيعية لها مشكلة مع غالبية مسيحية. الفارق عند الشيعة هنا، هو أن الجيل الجديد من رجال الأعمال وحديثي النعمة يعيشون تناقضاً كبيراً، إذ يرفضون النفوذ السياسي للمسيحيين، لكنهم يجترّون النمط الاستهلاكي نفسه في الحياة اليومية، ولقسم كبير منهم شغف بالاتصال بالغرب على هيئته الحالية.
– عند الدروز، لا يمكن العثور على أسس عميقة لموقف يدعو الى الثقة بالمسيحيين رغم أن السياسة تفعل فعلها أحياناً. وإذا كان وليد جنبلاط اليوم يقود تحالفات على وقع رقّاص الساعة، فقد سبق أن عبّر عمّا هو مقتنع به عندما تحدّث عن «الجنس العاطل». وهو، في يومنا هذا، يكره القوات ويخشى تمدّد نفوذها، ويرى في التيار ورئيسه شيطاناً رجيماً. وبخلاف طبقة رجال الأعمال الشيعة، فإن جنبلاط، «الميسور الوحيد» عند الدروز، لا يخفي إعجابه بنمط الحياة المسيحي (الغربي)، وهو ما عبّر عنه سياسي مسيحي بأن زعيم المختارة لا يتزوج درزية، ولا يصادق درزياً، ولا يتناقش مع دروز، لكنّ هناك خمسين يوماً في السنة عليه أن يتفقّد فيها رعيّته مع كثير من التكلف.
الموقف الجنبلاطي من المسيحيين هو نفسه إزاء الغالبية الشيعية التي يمثلها حزب الله، أما علاقته مع حركة أمل، فهي من ضمن فكرة تقاسم السلطات في النظام الطائفي. وهي حال خصومه من الدروز ممن يقاتلونه بأدواته نفسها لمشاركته في سلطة إدارة القبيلة. ورغم مواقف أصيلة لهؤلاء إزاء دعم المقاومة، إلا أنهم يمتنعون عن انتقاد حركة أمل إلا في ما ندر. والأمر نفسه ينسحب على علاقتهم بالمسيحييين، إذ يعبّرون بصورة أوضح عن خصومتهم مع القوات وحلفائها، بينما تبقى علاقتهم مع التيار الوطني الحر ربطاً بالتحالفات السياسية اليومية.
– عند السنّة، لم يدم تأثير رفيق الحريري أكثر من عقد ونصف عقد، إذ إن رحلته انتهت – قبل اغتياله – الى تحويله زعيماً لغالبية سنيّة مع قوة اقتصادية كبيرة، وغطاء إقليمي ودولي، تماماً كما حزب الله. لكن الفارق أن الحريري الذي انخرط في إدارة الدولة وفق اتفاق الطائف، أراد تكرار تجربة الموارنة في النسخة الميثاقية من النظام اللبناني. فأقام تسويات مع طبقة رجال الأعمال والمال، وأدار علاقة «إرضاء» مع الكنيسة خلال فترة الوجود السوري. إلا أنه أيضاً كان يعاني الأمرّين، وهو «بقّ البحصة»، ولو في مجالسه الضيقة، يوم افتتاح المدينة الرياضية الجديدة، عندما طالب مسيحيون بإبقاء اسم الرئيس الراحل كميل شمعون على المنشأة الرياضية. فقال يومها: «لا أعرف كيف أتعامل معهم. أعطيتهم نصف سوليدير وهم لا يحقّ لهم بذلك، ومثّلت مصالحهم في كثير من المواقع، وأبقيت فرنسا حاضرة في قلب لبنان، وأنا من أقنع البابا بالمجيء الى بيروت لطمأنتهم، وحرصت على المناصفة في كل الإدارات أو المؤسسات المنتخبة. فما هو المطلوب بعد؟».
طبعاً لم يكن الحريري خصماً للنظام القائم قبل الطائف، لكنه كان باحثاً عن موقع أكثر تأثيراً للمسلمين السنّة، وهو ما حصل عليه بعد اتفاق الطائف. ومع إعلان نظام الترويكا، حاول التعويض عن النقص في تمثيل رئيس الجمهورية المسيحي، بالقيام بدور من خلال ما افترضه تحالفاً وثيقاً مع الكنيسة. وبعد رحيل الحريري، تصرف ورثته على أن المسيحيين حلفاء في معركة إنهاء النسخة السورية من اتفاق الطائف. لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن خروج الوصاية السورية أعاد الى المسيحيين تمثيلهم الحقيقي، وهو ما شكّل صدمة لدى الغالبية السنيّة المتمثلة بالتيار الحريري، فكانت المشكلة المستمرة مع التيار وتلك التي استجدّت مع القوات. وفي حالة السنّة اليوم، يصعب العثور سوى على أقليّة «لبنانوية» لا تمانع علاقة قوية مع المسيحيين.
ومع البحث في العلاقات المعقّدة والصعبة بين الشيعة والسنّة والدروز، وداخل الطوائف المسيحية، تكتمل صورة جنون عام لا نتيجة له سوى تدمير ما بقي من هيكل المجتمع اللبناني ومؤسساته التوافقية. والمشكلة القائمة اليوم حول معركة انتخاب رئيس للجمهورية، هي الباب الذي فتح من جديد «جهنّم طائفية» لا نعرف الى أين ستقودنا.
لسان حال الغالبية المسيحية اليوم أن حقوقنا الفعلية نحصل عليها من خلال صيغة حكم تمنحنا حقوقاً متساوية بعيداً عن منطق العددية وحتى الفعالية. لكن هؤلاء لا يقولون كيف سيديرون موقعهم في ظل الصراعات القائمة داخلياً وإقليمياً. أما المسلمون فلا يريدون مراجعة تجربتهم وتحمّل مسؤولية التدمير الذاتي الذي كانوا شركاء أساسيين فيه، وهم في حالة الدولة الراهنة يتّهمون المسيحيين بأنهم يعطّلون كل شيء: يرفضون اجتماع الحكومة، ويرفضون تشريع المجلس النيابي، ويمنعون مجلس القضاء الأعلى من العمل، ويفرضون حسابات خاصة على سلوك القوى الأمنية والعسكرية، من أجل انتخاب الرئيس الذي يريدون، فيما القناعة غير المعلنة لدى المسلمين أنهم هم من يختارون الرئيس المسيحي…
وتكتمل دائرة الكارثة مع تحوّل الناس أسرى شعارات من يطالب بالتقسيم والفدرالية. أصحاب هذه النظريّة يتجاهلون حقيقة أن لبنان موصول أصلاً بشريط لاصق من «البصاق» لا يتحمّل قوّة شدّ من جهة واحدة، ومشروع «الانعزال» لا يحمل أيّ أساس علمي صلب يمكن أن يحوّله الى حقيقة، بل هو مجرّد دعوة الى حفلة حروب أهلية جديدة ستعيدنا الى الزمن العبثي، الذي رفع فيه بيار الجميل شعاره الكارثة: لتقع الحرب وليربح الأقوى!