بعد مضي شهر على تنفيذ رجال المقاومة الفلسطينية للعملية البطولية «طوفان الأقصى» ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وبعد مرور شهر كامل من تصدي وصمود المقاومة للحملة العسكرية الإسرائيلية الهمجية المتوحشة على غزة وعلى أهلها المدنيين الأبرياء، وبعد تدمير إسرائيلي ممنهج للأبنية السكنية وللأحياء والمشافي والجوامع والكنائس ولكل البنى التحتية، المترافق مع حصار مطبق وانقطاع للماء والدواء وحرمان المدنيين من سبل العيش، نستطيع القول بأن المخطط الإسرائيلي الأميركي الغربي العربي تجاه غزة بات واضحاً إلى حد كبير.
من يعتقد أن التغوّل الإسرائيلي بارتكاب الإبادة الجماعية بحق المدنيين العزل في غزة، وارتكاب المجازر البشرية بهدف الدفاع عن النفس كما تدعي أميركا والدول الغربية، فهو إما مخطئ وإما متواطئ، فإسرائيل دولة محتلة لدولة عربية اسمها فلسطين، ومحتلة للجولان السوري، ومحتلة لمزارع شبعا في جنوب لبنان، ومحتلة للقدس الشريف، وباعتراف وإقرار من الأمم المتحدة والهيئات القانونية ومراكز الأبحاث وكل كتب التاريخ، تثبت بأن الكيان الصهيوني هو كيان غاصب ومحتل، فأي قانون دولي يمكنه منح المحتل حق الدفاع عن نفسه؟
إن عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول، مثلت الحق الفلسطيني المشروع في الدفاع عن النفس، وخصوصاً بعد معاناة طويلة من ممارسات المحتل الإسرائيلي، بفرض حصار جائر وقتل متعمد وسطو على الممتلكات وهدم البيوت واعتقالات تعسفية وسرقة للممتلكات وتمييز عنصري، ومن ممارسات صهيونية مقيتة مهينة بحق الإنسان الفلسطيني، والأهم من كل هذا، التدنيس الصهيوني المستمر للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وبالأخص للمسجد الأقصى.
الإعلام الأميركي والغربي والأوروبي ومعه بعض الإعلام العربي آخذ بالترويج للدعاية الصهيونية المتمثلة بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، أما الفلسطيني صاحب الأرض وصاحب الحق فلا يملك حق الدفاع عن حياته وأرضه وبيته وممتلكاته وعن مقدساته، وبمعنى آخر فإن للمعتدي حقاً في الدفاع عن احتلاله فيما يحجب عن المعتدى عليه حق الدفاع عن نفسه.
إن من يتابع تصريحات المسؤولين في الكيان الصهيوني ومسؤولي الإدارة الأميركية وآخرها تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن من العاصمة الأردنية عمان، بأن الحرب على غزة لن تتوقف من دون القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية، ما هي إلا تصريحات دخانية للتعمية على حقيقة المخطط الصهيوني الأميركي الغربي بالتكافل والتضامن مع بعض الحكومات العربية، وهنا يمكننا أن نوجز المخطط والأهداف من الحرب على غزة وأهلها في النقاط التالية:
أولاً – تدمير أكبر قدر ممكن من أحياء غزة وبيوتها وبنيتها التحتية حيث تستحيل الحياة بها بأي شكل وخصوصاً على من يرفض مغادرتها، وقد طبقت إسرائيل هذا من خلال قصف مربعات سكنية كاملة في معظم أحياء غزة، فهناك عشرات الآلاف من المنازل إما مهدمة أو يستحيل الحياة فيها، ثم تقصدت إسرائيل التدمير الممنهج للبنية التحتية، فقصفت خزانات المياه ومحطات الكهرباء ثم المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، وتقصدت تدمير كل المنشآت الخدمية التي يمكن أن تساعد أهل غزة على التمسك بالبقاء في أرضهم، ومن ثم إفشال مشروع التهجير الإسرائيلي الأميركي الغربي.
ثانيا – بات من الواضح أن المخطط الإسرائيلي الأميركي بتهجير أهل غزة كان معداً من قبل 7 تشرين الأول أي قبل تنفيذ عملية «طوفان الأقصى»، تماماً كما حصل في حرب تموز 2006 في لبنان، حينها كانت أميركا وإسرائيل مع معظم العرب، قد أعدوا العدة لسحق حزب اللـه اللبناني ولتهجير أهل جنوب لبنان إلى الداخل بانتظار ساعة الصفر، لكن المقاومة اللبنانية سبقت الصفر بساعة وقامت بعملية خطف لجنود صهاينة من منطقة «خلة وردة» على الحدود المتاخمة لفلسطين المحتلة، حينها شنت إسرائيل حربها على لبنان لمدة 33 يوماً بحجة أن لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها وفشلت.
ثالثاً – ما تعلنه الولايات المتحدة أنها تهدف لفتح ممر آمن، يؤكد مخطط تهجير سكان غزة إلى سيناء المصرية وإقامة مدن أو تجمعات سكنية تخضع للحراسة لتكون سجناً مفتوحاً لمن يتم تهجيرهم من أهل غزة وفق الخطة التي أعدت مسبقاً، ويأتي تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن وقادة إسرائيل عن تهجير مؤقت لسكان غزه بمنزلة تسويق كاذب ومخادع، حتى إن الكونغرس الأميركي أفصح عن وثيقة تتضمن المبلغ الذي اعتمده لإسرائيل (16 مليار دولار) خصص منه جزء كبير لتمويل عملية تهجير أهل غزة إلى سيناء أو إلى دول مجاوره.
المبعوث الأميركي الأسبق للسلام في الشرق الأوسط دينيس روس نشر مقالاً في «نيويورك تايمز» جاء فيه أنه تحدث مع كثير من أصدقائه الحكام العرب في المنطقة فأكدوا له أنهم يؤيدون القضاء على حماس، لكنهم يخشون الإعلان عن ذلك خوفا من شعوبهم.
وإذا رصدنا طوالِ شهرٍ كاملٍ سلوك معظمِ الحكامِ والحكوماتِ العربيةِ الصامتةِ على ما يجري منْ جرائم حربٍ غير مسبوقةٍ في غزةَ وأيضاً تأخر انعقاد القمة العربية التي حددت في 11 من الشهر الجاري، أي إعطاء الصهاينة الوقت الكافي للقضاء على أي مقاومة في غزة، تماماً كما منحت أميركا وبعض العرب لإسرائيل 33 يوماً في 2006 للقضاء على المقاومة اللبنانية، ندرك أن إسرائيل ما كان لها أن تتمادى بارتكاب الإبادة الجماعية في غزة من دون دعمٍ أو ضوء أخضر من معظم الحكام العرب.
إنه الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى لتنفيذه إسرائيل انطلاقاً من غزة وبدعم أميركي غربي وعربي وبلسان رئيس حكومة كيان العدو بنيامين نتنياهو نفسه الذي ما فتئ يردد بأن الحرب على غزة من أجل بناء شرق أوسط جديد، أي من دون مقاومة، تماماً كما بشرتنا وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق كونداليزا رايس خلال حرب إسرائيل على لبنان 2006.
في تلك المرحلة، خسرت إسرائيل الحرب ومنيت بهزيمة إستراتيجية أطاحت برئيس وزراء الكيان الصهيوني آنذاك إيهود أولمرت، وفي حربها على غزة ورغم الوحشية ورغم الحشود الأميركية والأطلسية في المتوسط فإن إسرائيل ستخسر حربها على غزة في 2023، أما مصير بنيامين نتنياهو فسيكون الإطاحة به كما أطيح بأسلافه.
بالنظر إلى مخطط تهجير أهل غزة والحشود العسكرية البحرية الأميركية والأطلسية في مياه المتوسط والمسخرة لنجدة إسرائيل المترافق مع الصمت العربي المذل، ندرك بأن الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد وأن ما بين 2006 و2023 مقاومة شكلت محوراً قوياً يمتلك الكلمة الفصل والعدّة اللازمة التي تمكنه من إفشال أي نكبة عربية فلسطينية جديدة.